«جوهرة إسرائيل» و «الخراب»

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

رئيس هيئة الأركان الأميركية مارتن ديمبسي زار إسرائيل مؤخراً، مكث فيها يومين، وأجرى اتصالات وعقد لقاءات مع كبار القادة، وأعلن لصحيفة USA Today بعد الزيارة :«رغم الخلافات الماضية، أعتقد أن إسرائيل تشعر بالرضا الآن لأننا نمتلك القدرة على استخدام خيار عسكري إذا اختار الإيرانيون الانحراف عن الطريق الدبلوماسي. إسرائيل واثقة الآن أكثر من أي وقت مضى أنه إذا اقتضى الأمر سيلجأ الأميركيون إلى العمل العسكري».

مراكز أبحاث أميركية على علاقة وطيدة بإدارة أوباما عممت أكثر من دراسة وتحليل ورأي تركز على أن «أميركا ليست ذاهبة إلى أي مكان، ولن توقع اتفاقية مجنونة مع إيران، وهذه الأخيرة معزولة، وربما هناك فرصة لإقناعها بالتخلي عن برنامجها النووي، الوهم غير موجود لدى الجانب الأميركي. نعرف أن إيران مسؤولة عن مقتل جنود أميركيين في العراق، وتدعم المنظمات الإرهابية، ما تريده أميركا هو أن تعزل إيران أكثر، ومن ثم تفرض عليها خياراً، وهذا قد لا ينجح في إطار هذا النوع من الدبلوماسية» !

ترافق ذلك مع الإعلان عن قرار قضائي صادر عن إحدى المحاكم بمصادرة مبنى في نيويورك يضم شركات ومؤسسات مرتبطة بايران، وأهمها «مؤسسة علوي» متهمة إياها بتداول الأموال من خلال «مصرف ملّي» الايراني. وقدمت الإيرادات الى ضحايا الهجمات الارهابية في أحداث 11 سبتمبر! والقرار هذا لا يتناقض مع اتفاق ايران مع مجموعة 1+5 حول مشروعها النووي، فهو لا يمثل عقوبات جديدة مفروضة من قبل الرئيس الأميركي أو الكونجرس، هو قرار قضائي لا علاقة للطرفين به، وبالتالي لا يخرج عن الالتزام الأميركي بالاتفاق!

واتخذت الإدارة الأميركية قراراً برفض إعطاء تأشيرة إلى السفير الايراني الجديد في الأمم المتحدة حميد طالبي، متهمة إياه بأنه شارك في احتجاز الرهائن الأميركيين في السفارة الأميركية في طهران بعد اقتحامها من قبل مجموعات ايرانية إثر انتصار الثورة، «طالبي» ردّ بأنه كان هناك بصفة مترجم. ثمة مؤشرات أخرى تشير إلى افتعال أميركي لتأخير وتعثر الملف النووي الإيراني في هذه المرحلة رغم إصرار طهران المعلن على الوصول إلى نتائج إيجابية . وفي الأيام الأخيرة صدر كلام واضح لمرشد الثورة خامنئي، أكد فيه عدم رغبة إيران في امتلاك سلاح نووي، ودعا إلى استمرار المفاوضات، متمنياً الوصول إلى نتائج إيجابية، وهذا ما عكسه وزير خارجيته محمد جواد ظريف في مواقفه وسلوكه في إدارة المفاوضات. وشدد خامنئي على عدم التنازل والتفريط بحقوق بلاده، لا تخرج المفاوضات عن مسارها ولكنها تتأخر، أو تسير ببطء، وعلى هذا الأساس نفذت أميركا بنداً من بنوده في الأيام الأخيرة، حيث سلمت شركة «بوينج» الأميركية قطع غيار لطائرات إيرانية.

أوروبا تأثرت بهذا الجو، ويتحدث عدد من أركانها عن عدم تعاون ايران في مجالات أخرى، وأخرت أوروبا فتح مقر لممثليتها إلى أواخــــر 2014 .

ليس سراً القول، إن إسرائيل تمارس ضغوطاً كبيرة على أميركا وأوروبا، وكل الدول المعنية بالمشروع النووي الإيراني والتفاوض مع طهران، وهي تبتز الجميع زاعمة أن خطراً كبيراً يحيط بها وأن الاتفاق مع إيران سيئ، ولا بد من فرض عقوبات جديدة بدل الذهاب في اتجاه الاتفاق. إنها سياسة ابتزاز لتحقيق أغراض كثيرة، وأهمها تغطية سياساتها في فلسطين التي هي أولوية الأولويات بالنسبة إليها، هي قضية الوجود، وكذلك قبض ثمن أي اتفاق يعقد بين أميركا وخصومها علـــــى طريقة «الشريك المضارب»، وهي تتلقى أثماناً كثيرة وكبيرة دون حروب، أو تكلفة ما كما كان يحصل في السابق!

في السياق ذاته، أعلن وزير الخارجية التركي إن «الهوة التي كانت تباعد بين إسرائيل وتركيا تقلصت، ولكن لا يزال يتعين على الجانبين أن يلتقيا ليتوصلا إلى اتفاق نهائي». وقال نائب رئيس الحكومة التركي: «يمكن توقيع اتفاق مع إسرائيل بعد الانتخابات البلدية»!

وأخذت إسرائيل سابقاً السلاح الكيماوي السوري سياسياً، بمعنى أنها تخلصت منه دون حرب. وأخذت من أميركا الإقرار بيهودية الدولة، ولم تقدم إسرائيل خطوة واحدة نحو الفلسطينيين رغم مرونة «أبو مازن» وانتظاره حتى اللحظات الأخيرة، وتصرفه بهدوء. لم تلتزم اسرائيل بتنفيذ الاتفاق المتعلق بإطلاق سراح الأسرى على الأقل أسرى «الدفعة الرابعة». إسرائيل تريد كل شيء، تريد الابتزاز . نسبة الاستيطان في الضفة الغربية ارتفعت بنسبة 123 في المئة عام 2013 ، أما في الداخل الإسرائيلي، فالنسبة هي 4 في المئة. 60 فلسطينياً قتلوا في الضفة وهدم 269 منزلاً ! وأقرت إقامة كنيس «جوهرة إسرائيل» في قلب المدينة في القدس المحتلة بالتزامن مع اقتحامات جماعية للأقصى ومطالبة حاخامات وشخصيات أكاديمية إسرائيلية رئيس الوزراء نتنياهو بالعمل قدماً من أجل بناء الكنيس على جزء من المسجد! وفي السنوات الأخيرة بنى الاحتلال كنيسين كبيرين، أحدهما «كنيس الخراب»، الذي أقيم على أنقاض مسجد ووقف إسلامي، والثاني «كنيس بني اسحق»، الذي بني على أرض ووقفية على بعد 50 متراً من المسجد الأقصى!

وأعلن مسؤولون إسرائيليون أن «عهد المفاوضات انتهى، ويجب البدء بتفكير جديد في عهد جديد»، على حد قول وزير الاقتصاد نفتالي بنيت. والرد الفوري على خطوة الفلسطينيين بالتوجه نحو الانضمام إلى المنظمات الدولية، هو الإعلان الواضح عن نشر عروض بناء 4 آلاف وحدة سكنية جديدة في أنحاء الضفة والقدس! هذا ما قاله وزير الإسكان أوري أرئيل. لم تحتمل إسرائيل خطوة ذهاب أبو مازن إلى المنظمات الدولية، وهي التي تسببت بدفعه إليها وباعتراف وزير خارجية أميركا الوسيط في المفاوضات جون كيري الذي حمّل الإسرائيليين وللمرة الأولى مسؤولية تعثرها. وإنْ كان قد انتقد إقدام السلطة على خطواتها، باعتباره أيضاً إجراء من جانب واحد، ولكن كان واضحاً في تحميل إسرائيل المسؤولية عما آلت إليه مساعيه!

أما الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لاحقاً، فسيكون مقدمة لمقاضاة إسرائيل على جرائم حرب ارتبكتها في الضفة وغزة، وهذا سيفتح الباب أمام التحقيق مع الإسرائيليين أيضاً في موضوع المستوطنات، لأن قانون المحكمة يمنع دولة محتلة من نقل سكانها إلى أراضٍ تحتلها!

أبو مازن يعرف ضوابط كل حركته، ولم يكن يريد الوصول إلى الوضع الراهن، ولكن لم يكن لديه خيار، صبر كثيراً وقدم كل شيء، وعندما يصل الأميركي إلى الاستنتاج الذي أعلنه كيري لا يستطيع الفلسطيني إلا أن يكون موقفه أكثر تقدماً ووضوحاً وتشدداً.

المهم الآن إكمال العملية، بعد أن نفذ نتيناهو تهديداته وطلب وقف التعاون مع الفلسطينيين واتخذ خطوات كثيرة مؤلمة بحقهم. والواضح أن الحرب عليهم ستستمر، سيستمر القصف والدمار والخراب والابتزاز والوضع الإقليمي والدولي يفسح المجال أمام نتنياهو وعصابته بارتكاب كل الحماقات. المسؤولية الفلسطينية كبيرة جداً، وفي هذا التوقيت بالذات ينبغي توحيد الموقف الفلسطيني . لم يعد مقبولاً هذا الخلاف وهذه الحسابات الضيقة التي تمنع إتمام المصالحة لمواجهة التحدي الإسرائيلي. الوحدة الفلسطينية هي الكفيل الوحيد بتحديد الخسائر واستكمال المواجهة لصون وحماية الحق الفلسطيني، وتحقيق الأمل بقيام دولة فلسطينية، وعامل الوقت ليس لمصلحة الفلسطينيين.