هل يتدحرج لبنان إلى «حفرة اليونان»؟

راجح الخوري (الشرق الاوسط)

حكومة الشهرين التي شكلها الرئيس تمام سلام جاءت على ما يفترض لتقوم بمهمتين؛ التمهيد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية ووضع قانون جديد للانتخابات النيابية، التي يتلازم موعد إجرائها تقريبا مع انتخاب الرئيس العتيد.

ولكن من الذي فجر طوفان المطالب العمالية ليغرقها هي والبرلمان في سلسلة من الإضرابات وصلت إلى التهديد بالعصيان المدني، وهو ما يضع لبنان أمام خيارين قاتلين، قياسا بالوضع المتهالك للخزينة التي لا تتحمل المزيد من المدفوعات بعدما تجاوز الدين العام 65 مليار دولار، وبالمطالب المحقة والمزمنة للعاملين في القطاع العام، الذي جرى حشوه بآلاف من المتعاقدين والمياومين من المحاسيب والأزلام.

إذا استجابت الدولة للمطالب التي ستكلف 300 مليار ليرة لبنانية، وهي فاتورة سلسلة الرتب والرواتب عن طريق فرض المزيد من الضرائب، فهذا يعني أن ما يناله الموظف باليمنى سيتبخر في اليسرى، لتستمر الحلقة المفرغة للمطالب والإضرابات، والأخطر أن فرض ضرائب جديدة سينهك الخزينة المتهالكة أصلا ويقحم لبنان في مغامرة مالية خطرة وغير محسوبة!

وإذا امتنعت عن تلبية المطالب ستغرق البلاد في مسلسل من الإضرابات والاعتصامات، بما يضع البلد على حافة ثورة مطلبية عشية انتخابات نيابية، تفرض على المرشحين بالطبع استرضاء الناس ولو عن طريق معاملتهم كقطط تلحس المبرد متلذذة بدمها!

من الواضح أن ليس هناك من يتنكر لحق الموظفين بتسوية أوضاعهم، لكن على قاعدة معادلة من شأنها أن توازن بين نفقاتها المالية المطلوبة والقدرة على تأمين الواردات لتغطيتها، بعيدا عن المزايدات الشعبوية التي لا تقيم وزنا لارتداداتها السلبية على الوضعين الاقتصادي والمالي، وخصوصا في ضوء المخاوف التي تحذر منها الهيئات الاقتصادية فيما يتعلق بالاستقرار الهش للوضع المالي العام.

بإزاء هذه الخيارات الصعبة بدت سلسلة الرتب والرواتب موضوع النزاع، وكأنها سكين في بلعوم الدولة اللبنانية، فهي لا تستطيع ابتلاعها ولا تستطيع سحبها، إذا لم يقرر السياسيون فتح الأبواب الموصدة منذ زمن بعيد أمام الإصلاح ووقف الهدر ونهب المال العام، والصفقات وأساليب السمسرة وممارسة السلطة على قاعدة النفعية الجشعة، والبدء بتدمير ثقافة استغلال الدولة والوظيفة، وهو ما يغلب على سلوك معظم قطاعات الدولة!

لكن الإقدام على وقف حامولة الفساد التي ستجرف الدولة إلى الهاوية، والانخراط في إصلاح حقيقي يعنيان أن على معظم المسؤولين والسياسيين أن يقوموا بما يشبه «الهاراكيري المالي»، أي التوقف عن حلب بقرة الدولة التي مات الرئيس إلياس الهراوي وهو يقول، إن ضروعها جفت من السرقة والفساد، وهذا يصعب تصديقه في ظل الخلاف الكارثي بين اللبنانيين على أي دولة يريدون وأي سلطة يقبلون!

المشكلة واضحة تماما: لا يستطيع الموظفون السكوت عن مطالبهم المزمنة، ولا يستطيع عنق الدولة الإفلات من سلسلة الرتب والرواتب، وليس في الإمكان فرض المزيد من الضرائب.. فهل من الممكن أن يفتح باب الإصلاح الحقيقي ويبدأ وقف الهدر والفساد؟

وليد جنبلاط رفض إقرار السلسلة من دون ضمان قيام إصلاحات جادة في الإدارات العامة ومكافحة الفساد، وحذر من أن التلكؤ في هذا سيجر لبنان إلى كارثة اقتصادية مفتوحة على المجهول، قائلا: «لا جدوى من الضرائب ما لم تتم مكافحة الفساد المستشري في كل الإدارات وعلى أعلى المستويات بتغطية من الطبقة السياسية وأنا جزء منها ولا أستثني نفسي في هذا المجال.. نحن أمام بئر من دون قعر فحذارِ من الخطوات المتهورة»!

أمام هذا هل يمكن أن يقدم المستوى السياسي اللبناني فعلا على عملية «هاراكيري مالية» لمنع انزلاق البلاد إلى «الهاوية اليونانية»، وخصوصا أن ليس هناك من يتحمس لمساعدة لبنان بعد كل المؤتمرات التي عقدت لدعمه وانتهت من دون طائل بسبب تعامل اللبنانيين مع دولتهم على أنها مال سائب وهم بارعون في الحرام؟

قد يبدو هذا السؤال مؤلما، لكن يكفي أن نتذكر أن خسارة شركة كهرباء لبنان السنوية تبلغ ملياري دولار، وأن بول بريمر أعاد بناء شبكات كهرباء العراق عام 2003 بمثل هذا المبلغ، ومساحة العراق تساوي 43 ضعف مساحة لبنان، وأهله يساوون سبعة أضعاف عدد اللبنانيين، ويكفي أن نعرف أن استيراد لبنان تضاعف في ست سنوات لكن الهدر والفساد في الجمارك أدى إلى نقص كبير في المداخيل، وأن جباية حقيقية للضرائب يمكن أن توفر ملياري دولار، كل هذا كفيل بتغطية أكلاف السلسلة ويزيد!

يقولون عادة اضحك أنت في لبنان… لكن ابك لأنك لبناني!