خطاب «حال الأمة» لرئيس لبناني لن يُنتخب

عزت صافي (الحياة)

قد يُنتخب رئيس جديد لجمهورية لبنان، لكنه لن يكون الرئيس الذي يحتاجه لبنان في هذه المرحلة التي تُسمى «مصيرية»، وهي مصيرية في كل زمن، وفي كل معركة سياسية، منذ بداية استقلال لبنان قبل سبعة عقود.

أياً كان الرئيس اللبناني الجديد الذي قد يُنتخب قبل اليوم الخامس والعشرين من شهر أيار (مايو) المقبل، سيحمل «الدمغة» المهيأة له، وهي دمغة لبنانية بالطبع.

لكن عند الفحص النزيه، يتبين أن الغش ممكن في العمليات الانتخابية، كما في العمليات التجارية. والغش في السياسة والانتخاب أسهل منه في الإنتاج الصناعي. ذلك أن مواصفات الرئيس، بدءاً من نوع «قماشته» و «لونها»، يُتفق عليها مع الخارج. وأحياناً تصل «بدلة» الرئاسة جاهزة، ولا يكون على النواب اللبنانيين إلا تلبيسها لصاحب الفخامة.

مؤسف أن تكون «المسألة المصيرية اللبنانية» على هذا النحو من الفذلكة، والتمويه، إلى حد التزوير.

وُلد الكيان اللبناني عام 1920، ومعه وُلدت «المسألة المصيرية»، ولا تزال مستمرة.

فرنسا عيّنت للبنان أربعة رؤساء جمهورية خلال انتدابها عليه لمدة نحو ربع قرن، وقد رحلت عنه وتركته في المرحلة المصيرية. وللإنصاف، يجب الاعتراف لفرنسا بأنها كانت تختار للرئاسة اللبنانية من يجمع بين الكفاءة، والعلم، والنزاهة الشخصية. أما «الوطنية»، فكان لها في ذلك الزمن معيار ربما كان أرقى من معايير هذا الزمن.

والمعروف عن الشيخ بشارة الخوري أنه أول رئيس استقلالي إنتُخب عام 1943 لمدة ست سنوات غير قابلة للتجديد، لكنه جدّد، فغرس حلم التجديد في رأس كل رئيس بعده.

بيد أن الشعب اللبناني، في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، كان أرقى بدرجات منه اليوم. فأهليته الاجتماعية كانت مدنية، وتربيته كانت وطنية تتمثل بالعيش الطبيعي الخالي من الشك، أو الحذر بين اللبنانيين المتجاورين المندمجين في الحي، والمدرسة، والوظيفة، والشارع، كما في الجيش، والدرك، والشرطة، وكل على دينه، وعلى إيمانه، مع حفظ الاحترام لحق الاختلاف في السياسة والانتماء إلى أحزاب أو زعامات. بل كانت دور الزعامات التقليدية ملتقى الطوائف والمذاهب من أصحاب المصالح الشخصية، والعامة.

وإذا كان دستور الاستقلال اللبناني الأول قد نُسخ، تقريباً، عن دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة، فمن فضائل ذلك الدستور أنه لم ينص على تحديد طائفة رئيس الجمهورية، أو طائفة رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس الوزراء، لكن «الميثاق الوطني»، الذي تحول بياناً وزارياً لأول حكومة استقلالية هو ما تضمّن توزيع الرئاسات الثلاث بين الطوائف الأكبر عددياً، و «بصورة موقتة»، أي بانتظار تأهيل المجتمع اللبناني للدخول في نظام مدني ديموقراطي يواكب حركة العصر.

ذلك المجتمع اللبناني في ذلك الزمن، هيأ لكتلة نيابية إصلاحية مؤلفة من ثمانية أعضاء أن تدعو إلى إضراب شامل لتغيير الحكم احتجاجاً على تعديل الدستور خدمة للرئيس ولطاقمه السياسي المتهم بالفساد. ولقد لبّت كل المناطق والطوائف الدعوة فأقفلت المدن والأرياف أسواقها، وكانت ساحة الشهداء في بيروت أول ساحة عربية تسقط رئيس جمهورية بحركة سلمية لم تدم أكثر من ثلاثة أيام، ومن دون طلقة واحدة. حدث ذلك في صيف 1952. أي قبل 62 عاماً من انطلاق ما سمّي «الربيع العربي»، بدءاً من تونس، إلى مصر، إلى ليبيا، إلى اليمن، فسورية حيث تدور حروب، وتقع مجازر لا مثيل لها إلا في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

وللإنصاف أيضاً، يُسجّل لذلك الرئيس اللبناني (الشيخ بشارة الخوري) أنه ترفّع في آخر ساعة من ولايته، فقدم استقالته، مستسلماً لإرادة الشعب، مسلّماً دستور البلاد إلى قائد الجيش آنذاك اللواء فؤاد شهاب الذي حفظ الدستور، واعتذر عن عدم قبول الرئاسة ليسلمها إلى الفائز بالانتخاب الرئيس كميل شمعون أحد أقطاب الجبهة النيابية التي قادت الانقلاب.

من فحوى ما سبق، يتبين أن لبنان كان، قبل سبعة عقود، أرقى سبع درجات من لبنان الحالي. ولولا عصبيات بعض زعماء الطوائف الثلاث خلال العقود الماضية، لكان لبنان اليوم جمهورية ديموقراطية، مدنية، يحميها شعبها، ونخبها الثقافية والعلمية والاجتماعية.

وفي سياق الموضوع الرئاسي يستحق كمال جنبلاط الإشارة إلى أنه في انتخابات 1970، عندما احتدمت معركة الرئاسة بين ما كان يسمى «النهج الشهابي» و «الحلف الثلاثي»، دعا زعماء «الحلف» الموارنة إلى القبول بتعديل دستوري واضح ينص على أن «يكون رئيس الجمهورية مسيحياً»، من دون تحديد طائفته، على أن يكون رئيسا مجلس النواب والحكومة من الطوائف الإسلامية، من دون تحديد طائفة كل منهما حصرياً…

هكذا كان يمكن ضبط شهوات زعماء الطوائف لاحتكار المناصب العليا، وكان يمكن توسيع مجالات الاندماج الوطني بين جميع مكوّنات الشعب اللبناني. بل كان يمكن أن يتبع هذه الخطوة إلغاء الطائفية السياسية من الدستور.

ما كان للبنان أن يصل أخيراً إلى هذا المستنقع المملوء بالوحل المذهبي والتكفيري الذي يهدد كيانه بالتفكك، ويذهب بما بقي من تراثه الثقافي المدني والحضاري، لو لم يتحول الفشل السياسي المدني إلى حروب لإثارة الغرائز واستدراج المشاريع الإقليمية المدمرة، من الجوار القريب، ومن المحيط البعيد، ففتحت الحدود أمام جيوش «الإخوة» و «الإخوان»، تتقدمها الأسلحة الثقيلة، والمدرعات، وفوقها لافتات النضال و «الموت لإسرائيل».

لقد تحررت أرض لبنان من الرجس الإسرائيلي بفضل شهادات عشرات الألوف من المقاومين والضحايا الذين قضوا منذ مطلع الستينات حتى اليوم. فهل يحق للبنان أن يستعيد أنفاسه، ونبضات قلبه، بعد نحو أربعين سنة من الدم، والخراب، والقلق، والفرقة، والهجرة، والفقر والتردي الاجـــتماعي، والمالي والإداري، والاقتصادي، والسياحي، والصناعي، والتجاري، مع تدني الثقة والأمل بالمستقبل، وبالوطن؟

هذا بعض ما يتداوله اللبنانيون المجهولون، المتميزون منهم، والبارزون، وهم يتابعون المناورات التي تواكب في هذه الأيام مسار انتخاب رئيس جديد للجمهورية: غش، وخداع، ورياء، بذكاء لا يخفى باطنه على الأغبياء.

يقال عن رئيـــس جمهورية لبنان أنه يبدأ عهده قوياً، حتى منتصف ولايته، ثم يبدأ الهبوط التدريجي مع مطلع سنته الرابعة، إما لأنه خيّب الآمال، وهو الأدرى بما فعل، وإما لأن حلم التجــديد أو التمديد تسرب إلى مخدعه.

وللإنصاف، فإن الرئيس ميشال سليمان لم يسقط في هذا الحلم. وهو إن لم يكن قد نجح في الوفاء بمعظم ما تعهد ووعد، فلا تزال أمامه الفرصة والوقت ليدافع عن نفسه، وعن عهده، بما لديه من أسباب، وحقائق، ولا بد من أن تكون لديه وقائع وأحداث وتفاصيل وعراقيل، منها ما يعود إلى الدستور والقوانين، ومنها ما يعود إلى قوى داخلية، وإقليمية، ودولية، كانت، ولا تزال، تقف أمامه كحواجز ردع. وفي كل الحالات عليه أن يكشف أخطاءه، سواء ما كان منها عن غير قصد أو غاية، أو عن سوء تقدير. وبعد ذلك يعرض إنجازاته. وهذا ما يمكن أن يسمّى «كشف حساب». ولعله يذهب أكثر من ذلك فيتضمن كشف رصيده ما قبل الرئاسة وما بعدها…

إذا أقدم الرئيس سليمان على هذه المبادرة يكون قد سجل سابقة لا مثيل لها في تاريخ رؤساء لبنان. وهكذا يكون خطاب الوداع أهم من خطاب القسم، ومن كل البيانات الروتينية التي صدرت في عهده.

بل إن هناك ما قد يكون الأهم في خطاب الوداع إذا تلي في سهرة ليل 24 – 25 أيار (مايو) 2014. ذلك أن مكاشفة اللبنانيين ومصارحتهم، بعد ست سنوات، ستضع أمام رئيس الجمهورية الجديد صورة واضحة عن الدولة التي يتسلمها، وعن البلاد التي تحتضن شعبها، وبعض شعوب الأشقاء والأصدقاء، من قرب ومن بعد.

أمل الشطر الأكبر من اللبنانيين، والأهل العرب، والأصدقاء الدوليين، أن يكون رئيس جمهورية لبنان الجديد موجوداً ومستمعاً لخطاب يفترض أن يلقيه سلفه الذي تنتهي ولايته بنهاية خطابه. وهكذا يبدأ عهد رئيس جديد في يده تقرير مفتوح عن «حال الأمة اللبنانية»، فيذهب ميشال سليمان إلى مقعد المراقب بين الناس، وتقع المسؤولية على المغامر الطامح إلى مقعد الرئاسة في بعبدا…

فهل يلقي الرئيس ميشال سليمان خطاب الوداع، فيكون خطاب الرئيس الذي قد يُنتخب؟

سيذكر له التاريخ هذا الخطاب إذا ألقاه.

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟