رسالة هادئة إلى معالي وزير البيئة
محمود الاحمدية
16 أبريل 2014
التجربة الايطالية الرائدة في فرز النفايات من المصدر، نموذج متقدم
بعد أزمة مطمر الناعمة والآثار المترتبة عليه بالبعد البيئي ومحاولة القطاعين الأهلي والرسمي إيجاد الحلول، يشرفني أن أتوجه إلى معالي وزير البيئة بهذه الرسالة والحل الذي لايرهق الدولة بالمليارات وبمصائب الحرق ونتائجه الخطيرة على الصعيدين البيئي والاجتماعي.
كانت الساعة السابعة صباحا”.. الظلام مازال يخيم على مدينة مودينا الإيطالية التي تبعد حوالي الماية كيلومتر عن مدينة ميلانو شمالي إيطاليا.. كنا في ضيافة شقيقي.. فجأة لاحظت انه يطوي عبوة مياه بلاستيكية فارغة ويعيد إغلاقها بواسطة السدادة منعا” لانفلاشها مجدداً .. سألته بفضول: ماذا تفعل؟ أجاب بتلقائية “منذ عشر سنين وملايين الإيطاليين يتصرفون مثلي.. انه الفرز من المصدر! الحل الوحيد الأوحد الذي يحول النفايات من نقمة إلى نعمة!! سألته باندهاش ما هي الآلية العملانية؟؟ التي تتبعونها حتى انسجم الشعب الإيطالي كله في تطبيقها؟؟ قال: بسيطة!البلاستيك كما ترى أضعه بتلقائية في كيس خاص على الشرفة، والورق في كيس آخر بجانبه والزجاج مع المعادن في كيس ثالث والنفايات الرطبة “العضوية” في كيس رابع.. كل ذلك موجود على الشرفة، علماً بأن الأكياس هي من النوع الذي يذوب في الطبيعة! وكل صباح أتأمل الأكياس الأربعة وعندما أرى كيسا” منها ملآناً، أسحبه تلقائياً في سيارتي من المنزل إلى المستوعب الخاص به في الشارع وعندما يمتلىء هذا الأخير ينقله الكميون الخاص بالبلدية والشركة المختصة إلى أماكن التجميع ومن هناك إلى المصانع لإعادة التصنيع أو التدوير!! وتحولت رحلتنا الاستجمامية وكان ذلك منذ سنتين إلى بحث حميم ودؤوب عن التفاصيل لعلها تشكل نموذجا” يحتذى به من شعوبنا العربية عامة وشعبنا اللبناني خاصة.
يقول المثل الانكليزي: “في التفاصيل الصغيرة تكمن الاخطار الكبيرة”.. لكن التفاصيل هي السر الحقيقي الناجح الناتج عن تراكم التجربة والخبرة على مدار الاعوام العشرة في إيطاليا، مما جعلها تلحق بركب الاتحاد الأوروبي، أما الآلية فتتم على النحو التالي:
1- يفرز رب البيت النفايات يومياً بطريقة تلقائية عادية كما ذكرنا آنفا” في أربعة مستوعبات مستقلة توضع على الشرفة.
2- عندما يمتلىء أحد المستوعبات يحمله رب البيت ويضعه في مستوعب كبير في أقرب شارع لمنزله وهو في سيارته، وكل كيس في المستوعب المخصص له.
3 – المهمة الأساسية لبلدية مودينا: تقوم بدرس الكثافة السكانية في الأحياء وتوزع المستوعبات الكبيرة بمقاييس: طول 2 متر عرض 1.5 متر وارتفاع 1.5 متر، أي 4.5 أمتار مكعبة وذلك بطريقة عملية تسهل على المواطن الإيطالي الوصول إليها مشياً على الأقدام أو عبر سيارته. ومهمة البلدية الأخرى هي المراقبة الدائمة وإذا ما لوحظ ان أحد المستوعبات الكبرى موضوع فيه نفايات من غير المخصص لها تشتد المراقبة ويكلف المواطن المخالف مبالغ ضخمة تمنعه من المخالفة مجددا”.
4- المفصل الأساسي لنجاح هذه العملية هو تلزيم مسألة سحب النفايات التي تمّ فرزها في الشوارع ووضعها في أماكن مخصصة لها تضم مكابس هيدروليكية لكبسها وتصغير حجمها وفرم البلاستيك بآلات خاصة وطحن الزجاج ومن ثم نقلها الى المصانع لإعادة تدويرها، في مقابل أسعار مدروسة تباع بالطن. حصة البلدية في الشركة الخاصة 47% والبقية للقطاع الخاص المشارك53% مما يعطي دينامية رائعة في السرعة والآلية والعمل، لأن الانتاج مربح ماديا” ويفتح آفاقا” واسعة أمام مئات الوظائف عدا عن تقزيم حجم النفايات. وترتبط البلدية بعقد مع الشركة “META S.P.A”.
التي تكون مسؤولة عن نفايات مدينة مودينا والقرى في الجوار ضمن مساحة تحددها الاستراتيجية الخاصة بالدولة الإيطالية، مع ملاحظة مهمة جداً ان المصانع هي التي ترسل الشاحنات لنقل مختلف الأنواع للنفايات المفرزة من أماكن التجميع الخاصة بالشركة، أما النفايات الرطبة أو العضوية فتنقلها الشركة الى مصانع تحولها سمادا” طبيعياً نظيفا ومفرزاً. أما البقية فتتحول الى العوادم أي المواد التي لاتسيء الى البيئة فتنقلها الشركة إلى مطمر عام في مدينة بياتشنزا على بعد 50 كلم بحيث لاتتجاوز ال 10 % من كمية النفايات الأصلية مما ينعكس إيجابا” على المطامر المماثلة على مستوى كل المدن الإيطالية. طبعا” الآلية والخطة لم تختصر المسافات بسرعة على طريقة “كوني فكانت” بل هما عصارة تراكم الخبرة وللاستفادة من الاخطاء في التطبيق.
فالتوعية بواسطة الاعلام المقروء والمسموع والمرئي، ولاسيما التلفزيون، هي الجسر الأساسي الذي سحب المواطن الإيطالي من الضفة المتواضعة إلى الضفة الأخرى في الاتحاد الأوروبي، والاعلام المرئي بالذات استعمل ومايزال بطريقة ذكية معبرة تخاطب العقل والفكر والقلب في آن معاً وذلك عبر فلاشات يومية من خلال المرئي والمقروء والمسموع على عدة أقنية. في رحلتي الى إيطاليا ثمة مشاهدات حية لهذه التجربة فهي عبرة وأمثولة للشعب اللبناني وللحكومة اللبنانية وأروع ما فيها ميزانيتها “العدمية” والتي يستطيعون تحقيقها إذا أرادوا. وأهم ما فيها انها تبعد الحيتان المالية والشرهين والطامعين ولأنها لا تحمل في ثناياها المليارات بل الملايين وتنقلب من نقمة إلى نعمة.