إحكام السيطرة… كيف يتخذ خامنئي القرارات

ملخص تنفيذي

 حتى في ظل أنظمتها الأكثر استبدادية، كانت إيران الحديثة تُحكم بدرجة من التوافق بين فصائل النخبة. فقد تنازل القادة للمنافسين أو قاموا باستيعابهم عند الضرورة للإبقاء على سيطرتهم على السلطة، والنظام الحالي ليس استثناءً. بيد أن تحديد طبيعة ذلك التوافق وأثره على عملية صناعة القرار الإيرانية يتسم بتعقيدات خاصة اليوم، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الطبيعة الفريدة للجمهورية الإسلامية. إن الجمع بين الانتخابات الوطنية المنتظمة وولاية الفقيه – عقيدة تمنح المرشد الأعلى السلطة مدى الحياة على أنه الفقيه الحاكم – أضفى جواً من عدم القدرة على التنبؤ بسلوك النظام.

ومن أجل فهم عملية صنع القرار الإيرانية بطريقة أفضل، يجب على المرء أن ينظر أولاً في خلفية المرشد الأعلى علي خامنئي. فهو لم يكن بأي حال عالم دين تقليدي – وقد تشكلت معارفه ومصالحه وطموحاته بشكل أكبر عن طريق التيارات الفكرية أكثر من تشكلها بالتقاليد الدينية. وبعد ثورة 1979، تطورت تلك الاهتمامات واكتسبت حماسة بالشؤون العسكرية التي ستؤثر بشكل كبير على نهجه في توطيد سلطته في السنوات اللاحقة.

وبمجرد أن خلف خامنئي آية الله الخميني في عام 1989، فإن العديد ممن قام بتعيينهم لم يكونوا منتمين إلى الجيل الأول للجمهورية الإسلامية وإنما لجيل جديد من السياسيين أصحاب الخلفيات العسكرية أو الأمنية. ومنذ ذلك الحين، عمل هذا النهج تدريجياً على إحداث نقلة نوعية في هيكل القيادة العسكرية العليا – “فيلق الحرس الثوري الإسلامي” – الذي أصبح لاعباً رئيسياً في الحياة السياسية والاقتصادية الإيرانية، الأمر الذي سمح لخامنئي بتأسيس سلطة مركزية قوية جداً. وهذا بدوره يمنحه القول الفصل في السياسة الخارجية والقضية النووية والعديد من الأمور الأخرى.

ويقيناً، إن المرشد الأعلى لا يحظى بسلطة مطلقة، وهناك عوامل مختلفة وأفراد كُثُر أثروا على قراراته على مدار السنوات. وقد فشلت المحاولات الرامية إلى توحيد الحكومة ووضع حلول جذرية للتوجه الحزبي داخل النخبة الحاكمة، مما أدى غالباً إلى خلق الأزمات. بيد، وضع خامنئي العديد من الآليات لإدارة الانشقاقات وتوطيد سلطته.

على سبيل المثال، يدير “بيت” خامنئي – مكتب المرشد الأعلى – منذ نشأته ويعمل به أشخاص [خبرتهم الوحيدة هي] معارف شخصية وموالاة لخامنئي، ومعظمهم بيروقراطيين وليسوا سياسيين. وهكذا، فبينما يؤثر عليه مكتبه من خلال تحديد المعلومات التي يتلقاها، سعى خامنئي إلى منع تسرب العوامل السياسية إلى تلك المعلومات من خلال إدارة مكتبه بشكل شخصي وجلب الأصدقاء المقربين إلى دائرته الداخلية. إن إلقاء نظرة على هيكل هذا “البيت” يمكن بالتالي أن يساعد على شرح الطريقة التي يفكر بها المرشد الأعلى، وما يؤمن به، ومن هم أولئك الذين يثق بهم.

كما أن خامنئي أبعد منصبه عن الملالي، على عكس الخميني الذي أحاط نفسه بأتباعه من رجال الدين. وعلى مدار السنوات، فُرضت بيروقراطية جديدة على مؤسسة الملالي التي كانت مستقلة ذات يوم. فقد دفعت طبيعة الجمهورية الإسلامية، إلى جانب جهود خامنئي لتوطيد سلطته، إلى جعل الحوزات العلمية تعتمد كلية على النظام للحصول على الدعم المالي والسياسي. واليوم أصبح خامنئي مسؤولاً عن تعيين المجلس الذي يدير الحوزات العلمية الرئيسية والمعاهد الدينية ذات الصلة في إيران. كما أنه أحدث ثورة في الهيكل الإداري للمؤسسة الدينية، حيث استبدل النظام التقليدي الذي يستند على الثقافة الشفهية بنظام حاسوبي حديث يمنحه سيطرة كاملة على الحياة الخاصة للملالي، وأنشطتهم العامة، وتوجهاتهم السياسية، ونفقاتهم، وممتلكاتهم العقارية. كما أن هناك آليات قسرية (مثل “المحكمة الخاصة لرجال الدين”؛ و”مكتب الإحصاء”، وهو جهاز من أجهزة وزارة الاستخبارات؛ ولواء ميليشيا خاص يتألف من عصابات الملالي) ساعدته على قمع المعارضة. وقد تم سجن وإعدام المئات من رجال الدين نتيجة لتلك الهياكل، التي غالباً ما تتجاهل الإجراءات القانونية الإيرانية.

وفي الوقت ذاته، تتم مكافأة العديد من الملالي بمجموعة واسعة من وسائل المتعة والترفيه والامتيازات والفرص التجارية. إن مؤسسة الملالي اليوم هي الأكثر ثراء في تاريخ إيران والأقل احتمالاً بأن تدعو إلى إقامة حكومة علمانية وديمقراطية تحرمهم من الكثير من هذه المزايا.

وعلى الجبهة السياسية، كان على خامنئي أن يدير التوترات مع السلطة العليا الأخرى في البلاد، والرئاسة، وحتى إنه ذهب إلى حد إثارة التساؤلات حول ما إذا كان يجب إلغاء المنصب أم لا. وفي حين تقتصر صلاحيات الرئيس على الفرع التنفيذي وتواجه قيوداً كبيرة من المؤسسات الواقعة تحت سيطرة المرشد الأعلى، إلا أنه يستطيع معارضة سلطة الفقيه الحاكم في العديد من القضايا. ويفتقر خامنئي إلى الكاريزما والشعبية التي كان يتمتع بها الخميني، لذا اضُطر إلى ابتكار تدابير متقدمة لتقييد سلطة الرئيس – وكاد أن يؤدي ذلك إلى نتائج كارثية في بعض الأحيان.

وتُظهر رئاسة محمود أحمدي نجاد على النحو الأمثل كيف ستكون نتائح تلك التوترات على وجه  التحديد، وكيف أن المرشد الأعلى فشل في هدفه لإنهاء التحزب من خلال قيادة انتخاب رئيس خانع. ورغم تمهيده الطريق لنجاح أحمدي نجاد في الانتخابات، إلا أن خامنئي شعر أنه مضطر لمعاداته بمجرد بدئه بممارسة استقلاله عن المرشد الأعلى و “فيلق الحرس الثوري الإسلامي” وتطويره ساحات نفوذ اقتصادية وسياسية خاصة به. على سبيل المثال، سمح خامنئي للهيئة القضائية والاستخبارات وأجهزة الإعلام باتهام العديد من الأشخاص داخل دائرة أحمدي نجاد بالفساد الاقتصادي أو الأخلاقي، أو الاتصال مع حركات المعارضة، أو إقامة روابط مع الحكومات الغربية.

وفي النهاية، أضرت تلك الجهود بصورة خامنئي الشخصية وصورة الجمهورية الإسلامية على حد سواء. وقد أدت الاحتجاجات الجماهيرية التي أعقبت إعادة انتخاب أحمدي نجاد – عملية كانت محل شك – عام 2009 إلى إرغام المرشد الأعلى على اللجوء إلى العنف ضد المتظاهرين السلميين، مما دفع العديد من المسلمين في جميع أنحاء العالم إلى إثارة التساؤلات حول الشرعية الدينية للنظام. وعلاوة على ذلك، أن جهوده التالية للسيطرة على أحمدي نجاد بفاعلية أرغمته على الانتقاص من سمعة نفس الشخص الذي أراد بقائه في السلطة عام 2009.

تشير المؤشرات الأولى إلى علاقة أقل خطورة مع حسن روحاني، الذي انتخب رئيساً في حزيران/يونيو 2013. وقد سعى إلى إيجاد أرضية مشتركة مع المرشد الأعلى بشأن قضايا مثل الحد من دور “الحرس الثوري” في اقتصاد البلاد. وفي المقابل، كان المرشد الأعلى داعماً بشكل عام لجهود روحاني في المحادثات النووية مع الغرب. ومما لا شك فيه،  سوف يعتمد الحفاظ على هذه الديناميكية على استمرار إذعان الرئيس.

وحافظ المرشد الأعلى أيضاً على سيطرته على فروع أخرى في الحكومة. فهو يتدخل في كثير من الأحيان في القرارات التشريعية، سواء من خلال بعث رسائل مباشرة إلى رئيس البرلمان أو عن طريق تمرير آرائه عبر “مجلس صيانة الدستور” ومكتبه الشخصي. والأمر الأكثر أهمية أنه يسيطر على “المجلس الأعلى للأمن القومي”، وهو مجموعة صغيرة مسؤولة عن وضع سياسات الدفاع والأمن الإيرانية. ورغم أن رئيس الدولة هو الرئيس الاسمي للمجلس، إلا أن الممثل الشخصي لخامنئي هو من يقود مناقشاته فعلياً، ومعظم الأعضاء الآخرين معيّنين من قبله.

واليوم، يؤثر المجلس على العديد من شؤون السياسة الخارجية، بما في ذلك القضية النووية. وخلال السنوات الأخيرة، واجه خامنئي صعوبات للتنصل من المنهج الذي اتبعاه الرئيسين السابقين محمد خاتمي وأكبر هاشمي رفسنجاني حيال هذه المسألة. وعلى وجه التحديد، زعم أنه غير مسؤول عن السياسات التي يعتبرها ليّنة وغير فعالة – وهو يرى أن “المرونة” التي أظهرها المفاوضون النوويون السابقون دون موافقته لم تؤدي سوى إلى تشجيع “العدو” على تقديم مطالبات أكثر جرأة. ومنذ ذلك الحين، اتخذ خطوات لتحمل المسؤولية عن المحفظة النووية، مثل توطيد السيطرة على “المجلس الأعلى للأمن القومي” وتشكيل فريق تفاوض يعج بالموالين له.

وأخيراً، فإن علاقة خامنئي مع “فيلق الحرس الثوري الإسلامي” ربما تكون العامل الأكثر تعقيداً في عملية صنع القرارات داخل النظام. فمنذ توليه السلطة، حوّل “الحرس الثوري” من كونه قوة عسكرية إلى مجمَّع ديني وسياسي واقتصادي وثقافي، يسيطر على وسائل الإعلام والنظام التعليمي في البلاد. لكن رغم قوة “الحرس الثوري الإسلامي” ووجود العديد من الخلافات الداخلية في صفوفه، إلا أنه لا توجد أية أدلة على أن أياً من قادته هو في وضعية تمكنه من معارضة سلطة المرشد الأعلى. ومن بين التدابير الأخرى، واصل خامنئي تحجيم “الحرس الثوري” من خلال تطهير القادة القدماء، وتعيين ممثليه الشخصية في جميع صفوف “الحرس”، وتعيين نواب القادة بنفسه، وفي الواقع، أن العديد من هؤلاء النواب مسؤولون بشكل مباشر أمامه.

وفي المرحلة القادمة، من المهم أن نتذكر أن خامنئي غيّر وجهات نظره حول قضايا معينة باسم النفعية السياسية. على سبيل المثال، عندما أصبح المرشد الأعلى [عام 1989]، وجد أنه من الضروري أن ينحي جانباً معارضته (السرية) للسياسات المناهضة بقوة للولايات المتحدة. ولم يفعل ذلك نتيجة أي تحول أيديولوجي كبير، ولكن ببساطة من أجل مصادرة النفوذ السياسي من اليساريين الذين أصبحوا أقوياء في عهد الخميني. ومن خلال مناهضة الأمريكيين أكثر من المناهضين للأمريكيين أنفسهم، إذا جاز التعبير، تمكّن من تهميشهم وزيادة سلطته. كما أن قبضته على السلطة أصبحت أكثر قوة بكثير اليوم، ومع ذلك، هناك أقل احتمالاً لحدوث تحول كبير إلا إذا زادت الضغوط المحلية بشكل ضخم. وقد حمى مصالحه حتى الآن من خلال كبح نفوذ من يسعون إلى إعادة صياغة سياسات إيران المناهضة للولايات المتحدة، والمعادية لإسرائيل، والسياسات النووية، بمن فيهم الرؤساء الثلاثة الأخيرين.

 —————————————————-

(*) مهدي خلجي / معهد واشنطن