مصر المغدورة

د. قصي الحسين

حتى وقت قريب مما أسموها “الثورة الثانية”، كانت مصر تعرف “بمصر المحروسة”. فاجأت “الثورة الثانية” الساحات في القاهرة والسويس والاسكندرية، بإلغائها وسوْق الثورة بعد عام واحد إلى سجون العسكر. فمصر ظلت طيلة مدة الثورة “مصر المحروسة” بأبنائها. و”وقعة الجمل” وحدها، كانت كافية للحسم مع “نظام مبارك” واسرته وحاشيته وأكثر من ثلاثين عاماً من الاستبداد. “فمصر المحروسة”، اعتبرت إلى ذلك التاريخ دولة محترمة، تعرف كيف تقف عند الخطوط الحمراء في الأزمات. لا تزج بشعبها ولا بجيشها ولا تهدر “الدم المحروس” لئلا يتعكر “مزاج النيل” الذي يحرسها منذ أن “فضّها وروّاها”.

وعلى رغم افتقار نظامها السياسي إلى الديمقراطية، سعت “مصر المحروسة” أن تبقى قريبة من تقاليدها. فكانت تضع الدم عن شعبها وعن جيشها. وكانت تحمل أزماتها وتعض على جراحها وتصبر على جوع اطفالها، وتكابد وتقاوم وتعاند، ولا تقبل أن تنـزلق إلى الفتن بين أطيافها ولا إلى الصدام مع جوارها، ولا إلى الارتهان إلى القوى العالمية.

لكن ما حصل عشية “الثورة الثانية” كان لا يدل على احترام القوانين الداخلية ولا القوانين الدولية. ولم يسبق أن اقتضم الجيش رئاسة، أقله منذ ثورة 1952. ولا يجوز مقارنة مصر بسورية أو بلبنان أو بليبيا أو بتونس أو بالجزائر والمغرب. ولا حتى بالسودان أو موريتانيا. فمصر المحروسة هي أم هؤلاء جميعاً، والأم مهما كانت بالغة الجراح، لا تبكي.

ورأى الجيش أن “للإخوان” مشكلات داخلية وخارجية، وأنه يقع على كاهل الجيش جبهها وتذليل عقدها. وكان يغض النظر عن المشكلات التي تمس الحياة المدنية، وعن الأزمات التي تتسبب بالانهيارات. كان الجيش يسارع لرأب الصدع وحماية المجتمع الأهلي وصون العملية الديمقراطية وحراسة المعاهدات مع العدو وحفظها وحراسة الحدود والدفاع عنها. كان يرى أن كل ذلك من مهماته التاريخية، وأنه هو وحده حارس الجمهورية وحارس الديمقراطية وسياج “مصر المحروسة”.

لكن هذا الحسبان لم يعد في محله. فاستهداف “الرئاسة” وقضمها واللعب بها والاستهتار بالقوانين والأنظمة والدساتير والرأي العام الداخلي والخارجي. والمجازفة بالاقتصاد وبالعهود والتحالفات. والمغامرة مع الأشقاء والأصدقاء وتقديم الشعب المصري على مذبح الولاء الشخصي، وإلاّ فاستيقاظ الفتنة والدفع بها حتى الانتحار، فهذا لعمري مما يسيء لمصر المحروسة. ومما ليغضب له النيل وهو يرى الأم تنتحب ولا تبكي وحسب، بل وهو يرى في صورتها، صورة “مصر المغدورة”.

لم يكن قضم الرئاسة هُلْكَةَ رجل واحد بعينه اسمه “مرسي”. ولا هلكة حزب واحد بعينه اسمه “الإخوان” ومهما دبجت الأقوال ونضدت المطالعات واشتدت الدفوعات، يبقى أن “مصر المحروسة” اهتزت وطعنت في الصميم. يبقى أن مصر المحروسة غدت “مصر المغدورة”.

فلا يخفى أن ركن العقد الاجتماعي في مصر بعد الانقلاب الأبيض، والذي تحول إلى ثورة دامية، وأطلق عليها “الثورة الثانية” إنما هو عدم الانزلاق إلى فتنة دائمة. فالمواطنون يؤيدون الحكومة أو الرئاسة التي تؤمن لهم الاستقرار والازدهار، ولو كان الثمن القبول بتقييد حرياتهم والانتقاص من حقوق مواطنيتهم. ويسود اعتقاد بأن هذه الحال من الانفلات والقتل والدم ستستمر أيضاً، بعد موعد الرئاسة، وبعد الانتخابات الرئاسية وبعد تصعيد الرئيس. والاستعدادات الرئاسية تترافق مع المحاكمات (الحكم بالاعدام على 524 شخص دفعة واحدة) ومع المرافعات ومع موجات العنف الدامي الذي انفلت من عقاله. ولم يبق على النخب المصرية والعربية في الأحزاب والقطاعات والعسكر، ومن بينهم الإخوان وقيادة الجيش والرئيس الانتقالي والرئيس الموعود (السيسي)، إلاّ البحث عن مخرج من مأزق الغدر بمصر وابنائها في الداخل والخارج. وهذه العملية محفوفة بالصعوبة وتقتضي أولاً بأول “وضع الدماء”، وتوسل العقل.

فلم تعد سلطة “الثورة الثانية” قادرة على شراء الولاء الشعبي ولا شراء ذمم الأحزاب والقطاعات، مهما توسلت من قمع ومن بروباغندا لفرض الولاء لها.

ولم يعد الرئيس المخلوع مرسي ولا حزب الإخوان ولا القوى التي تسنده في الداخل والخارج، في المرتبة السابقة نفسها في مصر. ولم يعد في الإمكان اعتبار الطريق إلى الرئاسة مشروعاً كما من ذي قبل.

فالرئيسان الخالع والمخلوع في مصر ومن وراؤهما جميعاً هم في مأزق يقود إلى سياسة داخلية عدوانية وخارجية أكثر عدوانية، يحار الشعب المصري والشعب العربي أيضاً وأصدقاؤهم جميعاً وربما أعداؤهم أيضاً في سبيل التصدي له.

و”مصر المحروسة” التي تعمم السلم في المنطقة والعالم، هي نفسها مصر المغدورة التي تهدد السلم في المنطقة والعالم. والتصدي للتطبيع مع الفتنة الدائمة، إنما هو بأهمية التصدي للتطبيع مع العدو. وثمة حاجة إلى تدخل دول ديمقراطية في الصميم قادرة لا غادرة لتجميد الوضع وتجفيف الدم، وأن تقدم إجراءات السلم والسلم الأهلي لمصر اليوم “الأم المغدورة”: بل “مصر المغدورة”.

 ——————————

(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث