العقل الجماعي خيار استراتيجي

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

أعود إلى تونس التي يمكن أن تعيد إلينا الثقة بأننا قادرون على تقرير مصيرنا ومعالجة مشاكلنا والاتفاق على دساتيرنا وقوانينا وإدارة أنظمتنا ومؤسساتنا بما يضمن وحدتنا الوطنية وتنوعنا فيها. ونعطي للثورة التغييرية مفهومها ومضمونها اللذين تستحقهما، ونعطي في الوقت ذاته صورة ناصعة عن العرب والمسلمين مختلفة عمّا يجري في بعض ساحاتنا من تكفير وإرهاب من جهة، وإجرام وقتل وفساد وتجاوز كل القيم الإنسانية والأخلاقية والأصول من جهة ثانية، فتحولت معه بعض بلادنا إلى ساحات للذبح والقتل والنهب والسرقة والموت جوعاً وعطشاً، وتحولت بعض مساجدنا ومراكزنا إلى مواقع تنطلق منها دعوات الحقد والكراهية، وصودرت حياتنا بكل أنماط عيشها اليومية من قبل أنظمة استبدادية أو من قبل مجموعات تحللّ وتحرّم كيفما شاءت، فتحاول تكريس استبداد جديد ليحتل محل القديم، وليس هذا هو التغيير الذي أردناه وحلمنا به.

اليوم تونس تقدم تجربة جديدة شجاعة، حيث صوّت المجلس التأسيسي على الدستور الذي أكد «حرية الضمير» وعدم استخدام المساجد للتحريض أو التكفير بل جّرم «التكفير» لحماية حرية التفكير. ولم تكن هذه المعركة سهلة. فقد كانت مواقف ونقاشات وبيانات وتصريحات لعدد كبير من الرموز والمسؤولين والسياسيين التونسيين حادة في الاتجاهين بين مؤيد لهذه المواد ورافض لها.

مرّت حرية الضمير بعد صراع، لكن مسألة تجريم التكفير لم تمر بهدوء، إلا أنها مرت في النهاية. وعلى سبيل المثال فقط قال الناشط السلفي التونسي خميس الماجري: «إن دسترة تجريم التكفير هو أسوأ قرار تم اتخاذه في تونس ما بعد الثورة. وهو حكم غير شرعي جاء ليمنع أهل العلم من تبليغ أحكام الله»! فكان للفاضل موسى، النائب في المجلس التأسيسي وأستاذ القانون موقف قال فيه: «التكفير أصبح أداة بيد الحزب الذي يحتكر الدين لتهديد الخصم السياسي وإرسال صورة مشوّهة عنه للرأي العام الذي حرم في عهد زين العابدين بن علي من ممارسة شعائره الدينية براحة. والخلاف الذي يتعمّد الحزب الإسلامي تعميقه هو محاولته إبراز بعض المعارضين له والذين يملكون آراء تخصّ العلاقة بين الدين والدولة كأعداء للدين وحتى تكفيرهم وإراقة دمائهم في مراحل مقبلة».

رغم هذا النقاش الذي يعبّر عن آراء قوى فاعلة ومؤثرة في المجتمع التونسي، أقر المجلس التأسيسي الدستور وفيه النقاط الأساسية. وشكلت حكومة جديدة تأكيداً لتنفيذ مضمون خارطة الطريق، التي تم التوصل إلى إقرارها كوثيقة بين تلك القوى وأثبت الجميع التزاماً بها.

إنها تجربة تستحق التقدير والثناء والشكر لكل من شارك فيها وعبّر عن حسّ عالٍ بالمسؤولية وبالانتماء الوطني الصحيح.

وفي هذا السياق لفتني كلام للسيد راشد الغنوشي زعيم حركة «النهضة» الإسلامية صرح به لصحيفة Le Monde الفرنسية منذ أيام جاء فيه: «لا نستطيع كتابة الدستور وحدنا…كان علينا أن نختار بين إنجاح المسار الديموقراطي أو البقاء في الحكم، ففضلّنا الأول»!

هذا كلام جاء بعد تجربة حكم كادت أن تنزلق معها الأوضاع إلى ما تعيشه مصر وغيرها من الدول العربية تحت عنوان حكم الإسلام السياسي بشرعية الانتخابات من جهة أو العناد واعتماد الحلول الأمنية والتسلط والاستبداد في وجه الناس المتطلعين إلى التغيير من قبل الأنظمة من جهة أخرى. ولا شك أن ما جرى في مصر بشكل خاص كان له تأثير كبير على مجريات الأمور في تونس والأخطر من مصر هو ما يجري في ليبيا إضافة إلى ظهور حالات خطيرة في الداخل استوجبت تعاملاً أمنياً حازماً معها وبقرار من كل السلطات التونسية، وتعاوناً مع الجزائر وغيرها، وحالات اللجوء إلى الاغتيال وإلغاء كل من له رأي آخر في البلاد. والوصول إلى اتفاق مهم في تونس جاء أيضاً بعد ضجة أثارتها تصريحات سابقة له لوّح فيها إلى إمكانية منح أعضاء «جماعة الإخوان المسلمين» في مصر اللجوء السياسي. والبعض تحدث عن منح رموز معينين الجنسية التونسية.

اليوم، تونس في موقع آخر، وهو موقع المصالحة والاتفاق والعمل الجماعي والوحدة الوطنية ومصلحة البلاد كل البلاد ومصلحة كل أبنائها. هذا هو المسار الذي تقدّم وقدّم من أجله المؤثرون التنازلات المطلوبة. هذه الذهنية هي التي يجب أن تسود أنظمتنا وأحكامنا لننتقل بتدرّج من موقع إلى موقع أفضل، ونتخذ قراراتنا وخطواتنا التغييرية بكثير من التأني والدراية ووفق واقع وحسابات وحساسيات وخصوصيات مجتمعاتنا المختلفة.

وهذه الذهنية أكد عليها المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية بعد التصويت على الدستور عندما قال: «هذا الدستور خطوة على الطريق. الطريق ما زال طويلاً. ما زال أمام العقل الجماعي الذي كتب هذا النص، أمام الإرادة الجماعية التي فرضته الكثير الكثير من العمل لتصبح قيم الدستور جزءاً من ثقافتنا العامة والفردية ولتصبح مؤسساته الديموقراطية جزءاً من تقاليد راسخة لا يهمها مجييء زيد ورحيل عمرو». وأضاف:«إن بلادنا وجدت نفسها أحياناً بين فكّي كماشة الإرهاب والفوضى. وتمكنت خلال السنوات الأخيرة من تجنب ويلات العنف وعدم الاستقرار».

أما رئيس المجلس التأسيسي السيد مصطفى بن جعفر، فقال:«إن التوافق بين إسلاميي حركة النهضة وأحزاب المعارضة العلمانية الممثلة في المجلس التأسيسي كان خياراً استراتيجياً عند كتابة الدستور الذي يبني لدولة القانون والمؤسسات والحكم الرشيد ولدولة مدنية ديمقراطية حديثة».

وأشار إلى أن «أمامنا الآن تحديان: بناء المؤسسات الديموقراطية وربح معركة التنمية التي من دونها يكون كل البناء مهدداً وعلى حافة الخطر».

مرة جديدة أقول: التجربة التونسية اليوم تجدد الأمل. وأتمنى أن يثبت الله أركانها ورموزها على ثوابتهم وعقلهم ورشدهم وشجاعتهم وخيارهم الاستراتيجي بالعمل الجماعي المستند إلى العقل الجماعي والشراكة الحقيقية بين مكونات البلد الأساسية، وأن تعمّ هذه التجربة والذهنية سائر دولنا فتكون منارة وأساساً في تفكيرنا.