“جنيف السوري”…ملاحظات أولية

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

بعد جولات عنف كثيرة وحروب كبيرة بدأت عام 75، وبعد مؤتمرات حوار في الداخل لبنانية – لبنانية، وعربية– لبنانية، شارك فيها أعضاء اللجان العربية التي شكلت لرعاية ومتابعة الوضع اللبناني، والسلطة اللبنانية، والأطراف المتحاربة، وبعد موجات من المبادرات العربية والإقليمية والدولية وزيارات عدد كبير من الموفدين الدوليين والإقليميين إلى لبنان، انعقد مؤتمر جنيف لبنان خارج الأراضي اللبنانية عندما وصلت الأمور إلى حد استحالة اللقاء في لبنان بين القوى اللبنانية المعنية.

حرب لبنان علمتني الكثير، وتجربة جنيف هذه، حضرت أمامي وأنا أتابع مشهد جنيف – 2 السوري. في جنيف عقد المؤتمر الأول من أجل لبنان ثم تلاه «لوزان» في مارس 1984، وهو بمثابة جنيف 2 السوري. لا جنيف ولا لوزان أثمرا حلاً في لبنان. الحل جاء بعد خمس سنوات ونيف من انعقادهما، جاء من الطائف، والطائف بني عليهما وعلى ما سبقهما من أفكار ومبادرات وطروحات وبرامج ومشاريع تراكم طرحها في المنتديات واللقاءات والزيارات والمؤتمرات الكثيرة الداخلية والخارجية انطلاقاً من عام 1975، تابعت جنيف 2 السوري.

على وقع تأكيدات من جماعة النظام بأن لا جنيف 1 ولا جنيف 2 ولا جنيف 10 سيحل الأزمة، وتأكيدات من قبل جماعة المعارضة أن لا ثقة بالنظام، ولا أمل بالحل من خلال هذا المؤتمر، وسمعت الخطابات والتصريحات، واستذكرت تجربة لبنان فسجلت الملاحظات التالية:

1 – جاء الفريقان إلى «جنيف 2 » تحت الضغط الأميركي الروسي. أميركا وبريطانيا وصلتا إلى حد تهديد المعارضة بوقف كل أشكال الدعم المقدمة لها، إذا لم تشارك في جنيف 2.

حصر التمثيل في «مؤتمر أصدقاء سوريا» الثاني، الذي انعقد في باريس بـ«الائتلاف الوطني» كممثل شرعي وحيد للشعب السوري ترجمة لمواقف الدول العربية والأجنبية الداعمة للائتلاف، ولما أقر في «مؤتمر أصدقاء سوريا» الأول، الذي عقد في لندن.

الائتلاف واجه متاعب كثيرة، انقسامات في الداخل، خروج «المجلس الوطني السوري» من صفوفه. انسحابات أعضاء آخرين، تشكيك في قانونية قرار المشاركة في جنيف 2 لناحية عدد المشاركين، حملة ضد الائتلاف أنه لا يمون على شيء في الداخل وميدانياً على الأرض، فكانت «الجبهة الإسلامية» التي أعلن قيامها قبل أيام من المؤتمر والهجوم على «داعش»، وتحقيق مكتسبات معينة في هذا الاتجاه لإضفاء شرعية وتكريس قوة لمن سيفاوض في جنيف.

في المقابل ذهب النظام تحت الضغط الروسي، بكل انضباط وقف وزير الخارجية السوري وليد المعلم في موسكو قبل أيام من انعقاد المؤتمر وقال: «ننتظر ساعة الصفر من الوزير لافروف لنعلن التزامنا (بمبادرة وقف إطلاق نار، وفتح معابر وإطلاق سراح أسرى) وسنذهب إلى جنيف- 2.

وترافق ذلك مع تحقيق خطوات ميدانية متقدمة على الأرض خصوصاً في حلب وفتح مطار المدينة، وهذا ما اعتبره النظام وحلفاؤه مكسباً مهماً، إذاً، ذهب الفريقان تحت الضغط من الخارج، وفي جو الضغط في الداخل، 2 – منذ البداية لم يكن ممكناً اللقاء السوري – السوري في سوريا، بسبب تنكّر النظام للمعارضة من الأساس والذهاب إلى الخيار الأمني، وصولاً إلى الحرب المفتوحة بكل تشعباتها والتداخلات فيها، فأصبحت لعبة أمم كبيرة، وكان لا بد من اللقاء في الخارج.

3 – انعقد المؤتمر والأسد في موقعه، هذا ليس مكسباً للنظام وفشلاً للمعارضة بالمعنى السياسي الدقيق للكلمة، السبب بسيط، من أتى بالطرفين إلى جنيف 2، لم يكن قد اتفق على إزاحة الأسد، ربما أخطأ البعض في التقدير.

فريق قدّر أن خروج الأسد حتمي، والفريق الآخر قدّر وقررّ أن بقاءه انتصاراً له، والتقديران خاطئان حتى الآن، لماذا؟ لأننا كتبنا وذكّرنا أكثر من مرة، أن الاتفاق الروسي الأميركي قائم على المعادلة التالية: واشنطن تقول: «بدء العملية السياسية ليس مشروطاً بتنحي الأسد». وموسكو تقول: «انتهاء العملية السياسية ليس مربوطاً ببقاء الأسد»، والعملية بدأت. ولكنها لم تنته، فلننتظر إذاً النهاية. وعندما يتفق الطرفان الكبيران الراعيان، فلكل حادث حديث.

4 – في سياق الاتفاق الروسي الأميركي، تأكيد مشترك على محاربة الإرهاب.

لكن المؤتمر هدفه محدد، ولم يذهب في هذا الاتجاه، كأولوية، بل انطلق على قاعدة المعادلة المذكورة مع التشديد على أهمية موضوع الإرهاب في العملية السياسية، وهو موضوع غير الكثير من المعادلات، والتوازنات في الحرب السورية، وبالتالي في الحسابات.

5 – في جنيف لبنان ولوزان لبنان، وكل مؤتمرات لبنان، كان النظام السوري صاحب كلمة فصل ودور أساس، ولاعباً مؤثراً، فوض في مرات كثيرة بإدارة الشأن اللبناني، لأنه حجر الزاوية.

في جنيف سوريا، شئنا أم أبينا، سوريا أصبحت الساحة والملعب. والنظام لم يعد اللاعب الفعلي المقرر. المقررون هم في الخارج. أميركا، روسيا، إيران وتأثيرات من هنا وهناك.

لم يعد ثمة حجر، بل النظام متهم بتدمير الحجر، وقتل البشر.

وهو رغم الإنجازات الأخيرة في الزاوية قياساً على ما كان عليه حجر الزاوية الصعب الثقيل في مكانته. كانت سوريا تجمع كل الأوراق، أصبح النظام فيها ورقة من أوراق التداول في بازار السياسات والحسابات الإقليمية والدولية.

كانت سوريا، وكان نظامها الهيبة. باتت طائرة وفده تتوقف في اليونان لا تزود بالوقود إلا بعد دفع «النقود» نقداً من قبل وزير خارجيته.

وسيل من التهم بارتكاب مسلسل من المجازر الجماعية بحق شعبه يسبق ويلاحق وفده إلى وفي المؤتمر وعلى شاشات العالم.

6 – سمعنا كلاماً قاسياً من الطرفين، هو أمر طبيعي في أول لقاء، وحمام الدم مستمر في سوريا.

لكن القرار الأميركي الروسي كان يقضي ببقاء الوفد مهما كلف الأمر.

7 – جنيف 2 السوري، هو محطة سياسية مهمة، وجولة سياسية مهمة في لقاء الطرفين، فرضتها ظروف إقليمية ودولية، سبقتها جولات أمنية، رافقتها أعمال أمنية وستليها أعمال أمنية كبيرة في سوريا رغم ما يمكن تنفيذه من خطوات لها علاقة بتبادل أسرى وفتح معابر، هي ضرورة في إدارة الحرب اعتدنا عليها في لبنان.

8 – جنيف لبنان كان البداية، لوزان لبنان، كان المحطة الثانية، وسبقهما مبادرات ومؤتمرات إقليمية ودولية، شكلت هدنات، لم تكن النهاية إلا بعد سنوات كما ذكرنا.

وهي بنيت على ما تم طرحه في السابق، لكن في النهاية تغير النظام اللبناني.

بقيت المكونات الطائفية والسياسية، وبقي لاعبون وغاب آخرون.

لكن النظام تغير جوهرياً. جنيف 2 السوري هو البداية، سوف يكون المسار طويلاً.

شاقاً وصعباً، والأثمان كبيرة، وسنكون أمام جولات عنف جديدة في سوريا، وفي الجوار المتأثر بها في الأشهر المقبلة، أي قبل انتخابات الرئاسة في دمشق. إلا أننا وفي كل الحالات نحن أمام بداية، ولا بد من نهاية، وسيتغير فيها ومعها النظام مهما توهم كثيرون.

لأن ذلك حقيقة من حقائق السياسة، التي تعلمناها في أكثر من محطة.

9 – كان لا بد من دعوة إيران للمشاركة لأننا شئنا أم أبينا لا نستطيع إنكار دورها المؤثر لاسيما بعد اتفاقها مع الغرب وميل أميركا تحديداً إلى إشراكها، وستكون شريكة في المحطات المقبلة.

10 – في جنيف لبنان ولوزان وقبلهما وبعدهما، ومع كل التمايزات التي كانت موجودة في صفوف المعارضة، كان ثمة مرجعية لها بالواقع أو الأمر الواقع تصدر القرار وتدير العملية، كانت مجسدة بالنظام السوري.

للنظام اليوم مرجعية هي روسيا وإيران، ولكن ليس للمعارضة مرجعية سورية واحدة في الداخل أو الخارج وليس لها مرجعية إقليمية دولية واحدة وهذا ما ينبغي العمل على معالجته انطلاقاً من تجربة السنوات الثلاث في الحرب السورية واستعداداً للعمل في المرحلة المقبلة انطلاقاً من جنيف 2، هذه ملاحظات أولية سريعة.