«النووي الإيراني»…اتفاق الضرورة

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

أخيراً تم توقيع الاتفاق الأولي بين إيران ودول الـ 5+1، لقد كان اتفاق الضرورة للجميع، ولذلك جاء ربحاً للجميع، كما كان قد أعلن عن ذلك الرئيس الإيراني قبل التوقيع، ثم استخدم التوصيف ذاته وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعد التوقيع. فلو عدنا إلى الوراء سنتين على الأقل، لرأينا أن سلة الحوافز التي كانت معروضة على طهران أكبر بكثير مما أخذته الآن. وأن التشدّد الأميركي الذي بلغ حدود التهديد بالعمل العسكري، إضافة إلى العقوبات الكبيرة التي فرضتها الإدارات الأميركية والغربية ضد إيران، لم يكن هذه المرة بالمستوى ذاته.

لقد تغيرت إيران وهي تريد الاتفاق. الأزمة الاقتصادية المالية الداخلية كبيرة، التحولات الداخلية كبيرة هي الأخرى، تم استيعاب احتمالات انعكاسها سلباً على بنية النظام، بانتخاب روحاني رئيساً، وبتعديل في الخطاب واستعدادات سابقة ولاحقة لعلاقات مختلفة مع أميركا. كانت لقاءات أميركية – إيرانية أو مفاوضات منذ أكثر من سنة. لقاءات في عواصم عربية وغربية، ثم اتصالات مباشرة على مستوى الرئيسين ثم حوار مباشر وإعلانات متكررة من الطرفين بالرغبة بالوصول إلى اتفاق وانفتاح في العلاقات. المرشد خامئني استبق إمكانية الوصول إلى اتفاق ليعلن التأكيد أن إيران لا تريد امتلاك سلاح نووي، وتم تسريب معلومات عن أن فتاوى صدرت في هذا الاتجاه، لأن مثل هذا السلاح محرم امتلاكه. روحاني أكد المواقف ذاتها. فذهب الجميع إلى طريق الاتفاق. وإيران في الخارج تواجه متاعب ومصاعب كثيرة. لا استقرار في العراق. صحيح أن السيطرة شبه كاملة على القرار السياسي في بلاد ما بين النهرين. لكن الأزمة الداخلية خطيرة واللعبة المذهبية وعمليات التفجير والقتل والخطف والنسف المعبّرة عنها خطيرة، وتترك انعكاساتها على الداخل الإيراني والدور الإيراني والمصالح الإيرانية في الخارج وتحديداً مع المحيط أولا.

وسوريا لم تعد سوريا المتماسكة القوية وصاحبة القرار في المنطقة، اضطرت إيران للتدخل مباشرة ومن خلال “حزب الله” وكتائب “أبو الفضل العباس” العراقية لحماية النظام ومنع سقوطه، والحرب لا تزال مفتوحة، وفي سياقها اضطر النظام إلى تسليم سلاحه الكيماوي! هذا إضافة إلى تكلفة الحرب المالية التي تولت إيران جزءاً أساسياً منها رغم ظروفها الصعبة. العالم العربي تغير. كانوا يتوقعون صحوة إسلامية تغييرية تماشي العناوين والثوابت والمبادئ والمصالح الإيرانية، لكن الأمور ذهبت في اتجاه آخر. وثمة خوف كبير من الفتن المذهبية ومن التطرف، وهذا يترك انعكاسات على الداخل الإيراني، أي تقسيم أو فرز في الدول المحيطة يؤدي إلى قيام تكتلات أو دويلات أو مناطق حكم ذاتي عرقية أو مذهبية يشكل على المدى البعيد خطراً على إيران، وفلسطين لم تعد ورقتها كما كانت. “حماس” لم تعد “حماس” المرتبطة بإيران، التحولات في العالم العربي، حولّتها إلى موقع آخر فتباعدت المواقع والمواقف بينها وبين طهران. وتغيّرت الأولويات، ودولياً لعبت إيران ورقتها كما يجب، ولكن واجهت متاعب ومصاعب كثيرة. ليس مع أميركا والغرب عموماً فقط، بل أيضاً مع روسيا، التي تأخرت لفترة طويلة في تسليم موقع “بوشهر”، وكانت أزمات بينها وبين طهران، روسيا أصبحت اللاعب الدولي الأساسي والشريك الفعلي في مواجهة الولايات المتحدة. روسيا حاجة أساسية لإيران، ودور روسيا السوري والأفغاني والأفريقي والعربي والسياسي والأمني والنفطي والدبلوماسي يكبر ويشكّل ضماناً وحماية في اللحظات الصعبة والحرجة. وروسيا في الوقت ذاته لا ترتاح لإيران دولة قوية نووية استراتيجية على حدودها، هذا هو منطق الدول ومصالحها، إضافة إلى التجارب التاريخية بين الدولتين. ولروسيا مصلحة بأن تبقى ممسكة بمفاتيح ومفاصل اللعبة وهذا ما جرى. وأميركا المتضررة وصاحبة القرار الأول والأوحد، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لم تعد كما توهم قادتها. أميركا تراجع دورها ونفوذها. أثبتت التجربة أنها لا تستطيع التحكم بمجلس الأمن ومراكز القرار الدولي. خسرت في أفغانستان وفي العراق وتورطت وتسببت لنفسها وللعالم بأزمات كثيرة داخلياً وخارجياً، وفقدت صدقيتها وإدارة أوباما المدركة لذلك كانت من الأساس تريد حلولاً دبلوماسية سياسية للأزمات. لا يزال العراق يسيطر عليها وعلى كل مراكز القرار. حرب العراق التجربة التي تفرض نفسها في كل حساب، ولا يريد أوباما تكرارها، ولا يريد الحروب والمواجهات، هو بحاجة إلى الحلول، يهدّد، يتوعّد، يستخدم كل الوسائل والأدوات لكنه في النهاية لا يريد الحرب. هذا ما حصل في سوريا، هدّد ولم يضرب. وأخذ الكيماوي دون ضرب، وكان يريد الوصول إلى التفاهم حول النووي الإيراني، هو بحاجة إلى إيران في أفغانستان، بحاجة إلى روسيا في أكثر من مكان. ظهر بوضوح التناغم، بل تقاطع المصالح والشراكة بين أميركا وروسيا. وإيران أدركت ذلك عندما قال مسؤولوها: قمة أوباما- بوتين (التي عقدت منذ أشهر) ستؤسس لعالم جديد ينبغي أن نواكبه، وأن نعرف كيف نتعاطى معه لكي نكون مؤثرين. أمن النفط والتجارة العالمية والملاحة البحرية ومواجهة الإرهاب أمور تحتاج فيها أميركا دوراً إيرانياً، وكانت تجارب بين واشنطن وطهران في أكثر من محطة في مجالات كثيرة، وتحتاج فيها روسيا. كان القرار بالذهاب مباشرة إلى الحوار ثم إلى الاتفاق دون استشارة أو إبلاغ الحلفاء في المنطقة وتحديداً العرب. الأمر الذي أغاظ بعضهم، إذ ليس ثمة حد أدنى من التفاهم العربي.

فالعرب المنغمسون في مشاكلهم بعيدون عن هذه العملية، وبعضهم في دائرة القرار والحماية الروسية الإيرانية، والبعض الآخر يبحث عن دور. بقي بعض الخليج في حالة من الغضب.

أما الحليف الأساسي الثابت لأميركا فهو إسرائيل، التي كانت تعرف كل شيء، آخر تدخلها توقيع الاتفاق. تحسنت بعض الشروط في نظرها لكنها ستبقى تضغط، وتحتفظ لنفسها بمزيد من اللعب والابتزاز للحصول على المزيد من الأثمان، فهي المنشار الذي لا يهدأ.

الغرب يريد اتفاقاً، يريد الخروج من أزماته المالية، لا يريد حروباً، ولا يريد “إرهاباً” على أراضيه. أي اتفاق هو أفضل من العمل بالتهريب أو سراً وأفضل من المشاكل وما دام “القاضي راضياً”، كما يقولون، أي الأميركي والإيراني فلماذا المشاكسة. يمكن الدخول على الخط لتحسين بعض الشروط، هذا من طبيعة اللعبة هكذا فعلت فرنسا لإرضاء إسرائيل وحفظ المصالح المالية مع السعودية، وضمان حصص للمستقبل.

والكل قال في النهاية إنه اتفاق الخطوة الأولى، إذاً نحن في البداية ولابدّ من مراقبة ومتابعة كيفية التطبيق، ماذا سيرافقه؟ كيف ستدار العملية؟ كيف سيكون الاستثمار؟ مّن سيكون الأشطر؟

فجأة تراجعت إيران واضطرت إلى القبول، وهي تقول إنها ربحت حق التخصيب. أميركا اكتشفت فجأة أيضاً أن ثمة بنداً في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، استندت إليه إيران يتيح لها امتلاك الطاقة النووية، ويمكن البناء عليه للاتفاق وهذا ما حصل. وكأنها لم تكن تعرف الاتفاقية!

والخائفون من الاتفاق يشيرون إلى أنهم سيلجؤون إلى السلاح النووي وسيستندون في النهاية إلى تلك الاتفاقية أيضاً.

لا شك أن للاتفاق انعكاسات ونتائج ستظهر تباعاً على مستوى كل الأوضاع في المنطقة خلال الأشهر المقبلة، وعمر الاتفاق 6 أشهر، وهي بطبيعة الحال ستكون حافلة بالأحداث والتطورات في المنطقة من سوريا إلى مصر والعراق والبحرين وأفغانستان ولبنان وباكستان وليبيا وتونس وأفريقيا وفلسطين، حيث سنكون أمام انتخابات رئاسية في سوريا ولبنان، وتطبيق خريطة الطريق في مصر، والاتفاق الإيراني الغربي. المهم الخروج من دائرة انتقاد الأميركي وغيره – وموقفي من أميركا وسياستها معروف- والذهاب إلى تعاطٍ ذكي وعقلاني مع ما جرى لمواكبة المرحلة المقبلة!

إنه اتفاق الضرورة، ربح كل أطرافه ما يمكن ربحه، لكنهم ربحوا، والعرب كانوا خارجه. مجدداً أقول: شاطر من يعرف كيف يربح، أياً يكن الربح. وأشطر من يعرف كيف يخسر فيحدد خسائره. الكارثة هي في من لا يعرف كيف يربح أو كيف يخسّر!