إلى أين تتجه تركيا؟ منتزه جيزي، ميدان تقسيم، ومستقبل النموذج التركي

عندما قام باراك أوباما بزيارته إلى تركيا في عام 2009، وهي أول زيارة ثنائية له كرئيس، فإنه لم يختر تركيا كنموذج في حد ذاتها. وإنما أشار إلى أن تركيا “ليست الموضع الذي ينفصل فيه الشرق عن الغرب – إنه الموضع الذي يلتقيان فيه”. وإلى جانب ذلك، أكد استعداد أمريكا للعمل مع تركيا، وفوق كل الاعتبارات أو العوامل الأخرى أشاد بتركيا كدولة ديمقراطية ناجحة. واليوم، هناك العديدون داخل تركيا وخارجها يتساءلون عما إذا كانت تركيا ستبقى نفس تلك الديمقراطية الناجحة، تنعم باقتصاد مفتوح وتمثل شريكاً أمنياً موثوقاً مثلما كان عليه الوضع في العقود الأخيرة. هناك ما يدعو للقلق، لكن هناك أيضاً وقت للأتراك، وتلك مهمتهم في المقام الأول، لكي يعالجوا المسائل التي دفعت إلى قيام مظاهرات منتزه جيزي ويفصِّلوا عمليتهم السياسية وفقاً لما يرونه مناسباً.

إن المظاهرات التي اندلعت في منتزه جيزي وميدان تقسيم في اسطنبول في نهاية أيار/مايو تمثل التحدي الأكبر لحكم “حزب العدالة والتنمية” الذي يرأسه رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان خلال فترة الأحد عشر عاماً التي قضاها الحزب في سدة الحكم. لقد نجت الحكومة من الاضطرابات وهي الآن تشن هجوماً من خلال حملة إساءات لفظية – وإجراءات قضائية – ضد أولئك الذين شاركوا في تلك المظاهرات أو دعموها. ولا أرى خطورة جراء فشل الحكومة في معالجتها للقضية برمتها. لكن الحكومة، لا سيما أردوغان، سوف تواجه الآن معارضة خطيرة إذا حاول رئيس الوزراء تطبيق برنامجه الطموح لتعزيز النظام الرئاسي التركي من خلال تغيير دستوري وانتخابه كأول رئيس في ظل هذا النظام الجديد. ورغم أن تلك النتيجة لا تزال قائمة، إلا أن إعادة الترتيب الطموحة للمشهد السياسي التركي، والتي ستكون الأكثر أهمية منذ عهد أتاتورك وإينونو، تبدو أقل تأكيداً في ضوء الأغلبية الكبيرة التي يتطلع إليها أردوغان في انتخابات 2014 الرئاسية والاستفتاء على الدستور.

تستطيع تركيا وأردوغان – إذا وجد طريقة للتراجع عن التزامه بعدم الترشح لفترة ولاية أخرى كرئيس للوزراء – البقاء بدون مشكلة داخل الإطار السياسي الدستوري الحالي. لكن ما أبرزته المظاهرات ورد فعل الحكومة عليها هو أن تركيا أصبحت منقسمة بشكل متزايد إلى جماعات سياسية مختلفة تماماً وأن الحكومة نفسها تسهم في تعزيز هذا الاستقطاب داخل المجتمع. وذلك هو الوضع الأكثر إقلاقاً لمن يتابعون منا المشهد التركي عن كثب. إن ما أزعج المراقبون على وجه الخصوص، وأنا من بينهم، والحكومة الأمريكية، هو موقف وسلوك بعض القادة الحكوميين، وليس جميعهم. فهؤلاء القادة، ومن بينهم رئيس الوزراء، عمدوا عموماً على شيطنة جميع المتظاهرين ويعملون بشكل متزايد على تجريم الاحتجاجات السلمية وحتى حرية التعبير إذا كانت هذه تدعم المتظاهرين. إن ذلك يثير التساؤل حول التزام الحكومة بإتاحة حقوق حرية التعبير والتجمع، ومبدأ النسبية، وفي أعماق كل ذلك المبدأ الديمقراطي القائم على أن الأقليات لا يمكن تجاهلها ببساطة. إن نهج “الأغلبية” بالنسبة للحكم الديمقراطي، الذي رأيناه للأسف في أماكن أخرى في المنطقة، يتجاهل مكوناً رئيسياً من مكونات الديمقراطية: وهو أنه لا يستطيع أن يشمل حكم الأغلبية فحسب، لكنه يجب أن يحشد على الأقل استعداد الأقلية لقبول ذلك الحكم والشعور بأنهم جزء من المجتمع السياسي الأكبر. وهذا الشعور وذلك الاستعداد يشهدان حركة هياج الآن، وطالما استمرا كذلك فإن استقرار تركيا وفرص تحقيق المزيد من التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي ستظل على المحك.

التأثير على الولايات المتحدة

كيف يؤثر هذا على مصالح الولايات المتحدة؟ لا يمكن تقديم تركيا، كما لا يمكن تقديم الولايات المتحدة للعالم أو الصين في شرق آسيا، “كنموذج” للمجتمعات الأخرى لكي تحذو حذوه. ومع بعض الاستثناءات الفريدة – مثل الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة – لا تمضي العلاقات الدولية عادة بطريقة مباشرة. ورغم ذلك، أثبتت تركيا أن دولة ذات أغلبية مسلمة مرتبطة جزئياً بالشرق الأوسط الأوسع نطاقاً تستطيع أن تتبنى نظماً سياسية واقتصادية وأمنية غربية وأن تزدهر في ظلها جميعاً وتصبح شريكاً للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. إن نجاح تركيا أو فشلها النسبي في هذا الصدد سيكون له بعض التأثير على شعوب البلدان الأخرى في المنطقة.

لكن وبشكل أكثر مباشرة، فإن تركيا الواثقة من وضعها الداخلي وتقدمها الاقتصادي يرجح أن تلعب دوراً فاعلاً وإيجابياً في المنطقة إلى المدى الممكن من خلال التنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة. ورغم أن ذلك التنسيق بين الولايات المتحدة وتركيا كان وثيقاً خلال إدارة أوباما، إلا أن استمرار الاضطراب الاجتماعي وما يترتب عليه من أسئلة بشأن طبيعة الديمقراطية التركية سيزيد من صعوبة هذا التنسيق. إن الحكومة التركية المشتتة يمكن أن تتحالف بصورة أكثر مع عناصر مناهضة للغرب تدعم سياساتها المتشددة. وستجد الولايات المتحدة نفسها ملزمة حينها بالحديث صراحة عن انتهاك المبادئ الديمقراطية مما سيجعل التعاون والتنسيق أكثر صعوبة. ورغم ذلك، وعلى افتراض أن تركيا ستظل مستقرة بشكل معقول في ظل نظام ديمقراطي، فسوف يكون استمرار الشراكة أمراً ممكناً. وفي ظل الظروف الفوضوية التي تعصف بالمنطقة، فسوف تبقى هذه الشراكة ضرورية على أرض الواقع عند التعامل مع دور سوريا وإيران والعراق وإسرائيل في المنطقة.

لكن هنا تبرز نقطة أخرى ينبغي الانتباه إليها. إن العديد من المحللين لا يشددون على مفهوم “النموذج” فحسب بل يقدمون تركيا باعتبارها تابعاً أكثر وفاءً للغرب، لا سيما قيم الولايات المتحدة وبعض المصالح المحددة. لذا عندما تحيد تركيا يقيناً بشكل ما عن “توقعاتنا”، فإننا نشعر بحالة من عدم الفهم والسخط بل والغضب. وهذا كله ينبع من سوء فهم لدور تركيا في العالم، ودورها معنا. أرى أن تركيا ليست في نفس فئة دول الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وعدد من الحلفاء المقربين الآخرين. ففي هذه البلدان، تشكل الروابط الأبدية والتبعية الأمنية للولايات المتحدة مُسلمات سياسية للقيادة والشعوب على حد سواء. لكن ذلك لا ينطبق على تركيا: فهي لاعب دولي مستقل، على غرار الهند أو البرازيل، لكن مع قدر شعبي مرتفع غير عادي من التشكك تجاه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وبالمثل، إن هذه الدول تشارك الولايات المتحدة نفس القيم السياسية والاقتصادية مثلما هو الحال مع الغرب كما أنها مدمجة في العديد من المؤسسات الغربية. بيد أنه على عكس الهند أو البرازيل، فلدى تركيا علاقة أمنية راسخة معنا، ومصالح أمنية مشتركة، وترتيبات أمنية مؤسسية قوية – من العضوية في حلف “الناتو” إلى مشتريات الأسلحة الأمريكية الهائلة – التي تمثل عاملاً جوهرياً لأمنها ودورها الإقليمي. ويترتب على ذلك ميل قوي لدراسة المبادرات الأمريكية بل ومواكبتها إن أمكن، كما رأينا في أفغانستان. إلا أن تركيا ستعمل باستقلالية، لا سيما “على حدودها القريبة” وتتوقع منا دعمها في ذلك بدلاً من أن تدعمنا هي تلقائياً. كان ذلك صحيحاً قبل حكومة أردوغان، ولا يزال كذلك حتى اليوم. وفي هذا الصدد، علينا أن نتذكر أنه مع عبئها الهائل من اللاجئين السوريين وتصرفات “حزب الاتحاد الديمقراطي” المنبثق عن “حزب العمال الكردستاني” على طول الحدود التركية، يجابه الأمن الإقليمي لتركيا مخاطر لا يجابهها أمننا الإقليمي.

ما الذي ينبغي أن نفعله؟

جاءت ردود فعل الولايات المتحدة متحفظة رغم الحديث صراحة وبشكل متكرر عن تصرفات تركيا وتصريحاتها التي لا تتفق مع وجهة نظرنا للأعراف الديمقراطية. وهذا قرار حكيم. أولاً، إن كنا مؤمنين بمفهوم الديمقراطية، فعلينا أن نعترف بأن شعوب دول معينة وحدها، دون غيرها، يحق لها الحكم على الحكومة والمتظاهرين. ثانياً، إن الإدانة العامة لتركيا وأردوغان ستأتي بنتائج سلبية قوية. فهي لن تدفع الحكومة التركية إلى تفصيل ردودها بطريقة ملائمة، وإنما بحسب ما شاهدْتُه مراراً وتكراراً في الماضي، فإنها ستجعلنا المشكلة الجوهرية مما يحد من أية فرصة لقيام الحكومة بتقديم المزيد من التنازلات.

ومن ثم يجب أن ينصب هدفنا على أن نفعل ما بوسعنا، سراً وبدون إثارة أي عداء، من أجل ضمان إجراء مناقشات كاملة وصادقة داخل تركيا وتشجيع الأتراك على تسوية الانقسامات الحادة في مجتمعهم بطريقة ديمقراطية وسلمية. وهذه ليست الغاية في حد ذاتها لكي تحقق تركيا المزيد من النجاح والاستقرار، لكنها ضرورية أيضاً إذا أردنا أن نستمر في العمل الفاعل مع تركيا حول مجموعة واسعة من المشاكل التي نواجهها معاً في الشرق الأوسط الكبير وعلى نطاق أوسع في منطقة أوراسيا. وهذه المشاكل هي الأكثر خطورة التي واجهناها في الشرق الأوسط على مدار ثلاثة عقود، فقد أصبح الاستقرار في المنطقة وبقاء الأنظمة وأمن تجارة النفط وحتى الهيكل الكلي للأمن الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة أموراً على المحك. نحتاج تركيا إلى جانبنا، مثلما تحتاج إلينا تركيا. لكن من أمريكا وحتى الأناضول، فإننا جميعاً نحتاج إلى تركيا مستقرة وديمقراطية.

———————————————-

(*) جيمس جيفري / معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى