الإنســـان المحــــور والغــايـــة

المقدمة:

الإنسان الذي نحن بصدد البحث عنه، في هذا المجال ، هو الإنسان في تطوره من الكائن البشري الى الانسان وفيما يتعدى الإنسان، هو المحور الذي تدور حوله كرة المجتمع بكل خطوطها وتفاصيلها وتشعباتها، هو الغاية والهدف من الوجود والحياة التي نحياها ونحققها هو ” الإنسان الجديد” هو الذي بحث عنه وحدد مواصفاته المعلم كمال جنبلاط؛ في سعيه الدائم للحصول على المعرفة وتحققها فيه:

منذ أن وجد الإنسان في مكان ما؛ وفي مدى معين من الزمان المتواصل يحس من أعماقه بأشواقٍ لا تنطفىء إلى المعرفة التي تنطلق من مفهوم غاندي:

وتبدأ بمعرفة الذات، من عرف نفسه عرف الآخرين وعرف العالم وعرف الإله ؛ فهي تتطلب البحث والجهد والاختبار ؛ وفي حال الوصول إليها تصبح” وحدها الفرج الأكبر” الذي لا يدانيه فرح ” حسب تعبير المعلم كمال جنبلاط ” .

وتبقى المعرفة هي المنارة الوحيدة؛ في ليل هذا الإنسان؛ منذ بداية الخلق؛ حيث انفصل عن مصدره؛ الأول صورة عن خالقة؛ ومع مراحل تغير المجتمعات والعوامل الخارجية المؤثرة فيها، أخذ يبتعد شيئاً فشيئاً عن مصدره ؛ وبهذا تكون منارة المعرفة؛ طاقة النور؛ هي الإنسان البسيط /الكثيف من الشمس الجوهرية / اللطيف على زوايا النفس في عالم الازدواجية والثنائية؛ والتناقض والجدلية والنسبية، منارة معرفة الحقيقة التي تهديه في طريق عودته إلى حقيقته.

بعد هذه المقدمة العامة، سنتناول في بحثنا هذا النقاط التالية:

أ ــ المدنية والإنسان

ــ المدنية وارتهان الانسان

ــ حقوق الإنسان والإنسانية

ب ــ الحضارة وإنسانية الإنسان

ــ الحضارة والإنسان

ــ الإنسان والإنسانية

خلاصة عامة عن الإنسان التقدمي الذي يمتاز بالوعي والمعرفة والحرية؛ الإنسان الجديد الهادف لبناء مجتمع جديد.
أولاً: المدنية والإنسان

المدنية تعنى بتنمية المؤسسات المادية للمجتمع وتأخذ بكمية الانجازات التكنولوجية دون قيمة الإنسان؛ أما الحضارة في المحرك في طريق تطور المجتمع. والتي تعنى بالإنسان ومؤسساته وليس ” حضارة الآلة التي تسترق الإنسان وتفقده حقوق إنسانيته.

كيف تجلى هذا المفهوم النظري للمدنية والحضارة عند الحزب على الصعيد الاجتماعي؛ وما هي المقاييس والوسائل ؟ وإلى أي مدى كانت الترجمة العملية لهذا المفهوم.

المدنية وارتهان الإنسان:

المدنية تعمل على رقي الإنسان المادي وبالتالي تطور المجتمع وتغيره وتبدله. والحزب ربط بين التغيير في العالم وتغير وتحول الإنسان من خلال عمله ” في الحقيقة لن يتغير العالم إلا بقدر ما نتحول ونتغير نحن كما أن الفعل يحول الإنسان أكثر مما يحول باقي البشر. لأننا عندما نفعل نكون قد عملنا في سبيل أنفسنا في سبيل هذا الواقع الذي هو نحن أكثر مما نكون قد فعلنا في سبيل غيرنا.

وهكذا أكد على أهمية فعل الإنسان في واقعه ومجتمعه وربط بين هذا الفعل وما يحتوي من تغيرات في العالم على المستوى الاجتماعي؛ وتجدر الإشارة ملاحظة هامة في قوله وهي الفصل بين الإنسان وباقي البشر.

هل المدنية بكل وسائلها وكل تقنيات الإنتاج ساعدت الإنسان على تخفيف آلامه وتحقيق سعادته. قال الشهيد كمال جنبلاط بنوع من التساؤل والإجابة غير المباشره.

أليس مصدر آلام العالم الحديث فقدان العلاقة بين الينابيع السرمدية للجمال والشكل والصوت لأجل الركض وراء وسائل الراحة أو للبحث فيما هو فعلي زعما ًومن مختلف منتوجات الاستهلاك.

هل المدنية باعتبارها تعنى بالشأن المادي يمكن أن تتحول إلى شأن اجتماعي يعنى بتطور وتكيف الفرد والجماعة؟.

ربط كمال جنبلاط في أكثر من دعوة ومقالة وفكرة بين غرض المدنية كوسيلة وبين تعامل الإنسان معها للوصول إلى هدفه. ونبه إلى خطورتها في حال استمرارها باستنزاف طاقات الإنسان وتأثيرها على المجتمعات والبشرية؛ حسب النهج الذي تسير عليه وحسب قوله: ليس هو وحده الذي أشار إلى هذا الخطر وإنما ” نوه أكثر رجال العلم بالخطر الناجم حيال البشرية وحيال الحضارة؛ في انحطاط السلالات البشرية مثل نتيجة محتومة لأوضاع المدنية التقنية القائمة.

وها هو الدكتور غارتون يطلق نداءه لأميركا محذراً من الانحطاط الذي يشمل ثلثي الشعب الأميركي.

مدنية القرن العشرين ليست المسؤولة وحدها عن التقهقر الإنساني وإنما الإنسان نفسه هو الذي ساهم في تحوله إلى كائن سلبي بسبب إلغائه لدور العقل وأهميته في كل نواحي الحياة الفكرية والاجتماعية؛ كما أشار كمال جنبلاط.

“لقد حولت الحضارة الحديثة الإنسان إلى كائن سلبي؛ وربما هو الذي دفع نفسه بنفسه إلى هذه الحال بسبب تراكم خموله الذهني بعد أن أصبح يقبل كل شيء؛ وبعد أن ألغى في معظم الأحيان الدور الخاص بعقله وطمس مساعي وجوده الباطني الخفية من أجل الترفع الإنساني المحوري.

يعني أن قبول الإنسان بكل وسائل الإنتاج دون التحليل والفهم والدوافع هو إلغاء لمفهوم جنبلاط الذي ربط بين الفكر والعمل دون استقلالية أحدهما عن الآخر.

بهذا المفهوم فقط نخص تطور الآلة على الإنسان وعلى المجتمع وعلى الحضارة؛ ونتوقف عند قول جنبلاط بإدراك وفهم عميقين.

الويل للعالم المقبل وللشعوب من هذا التطور التقني الأعمى وهذا الاسترقاق لآلة الصناعة وأدمغتها الصماء، وينكشف لنا في بعض الدول الصناعية المتقدمة جداً كالولايات المتحدة عن أخطر ما يواجهه الإنسان المعاصر في تحكم الآلة في مصيره وذلك من خلال انتشار الآلة وتعميم أساليبها في الإنتاج وفي الثقافة والعلم والاستهلاك.

هل يعني أن جنبلاط دعا لعدم السير في خطى التطور المادي الحاصل وبالتالي الاستغناء عن الآلة؟ أم أنه مع التطور بمفهومه الشامل العميق.

اعترف جنبلاط بحتمية التطور والتقدم ومواكبته ولكنه دعا إلى التوفيق بين تطور الآلة

وبين حالة أغشية الإنسان ونزعاته الطبيعية والنفسية.

مفهوم التوفيق عند جنبلاط، ليس في مجال الإنسان والآلة فقط، وإنما في مختلف المجالات والمواضيع، بين الأخلاق والدولة، بين المواطن والجماعة بين الفرد والأرض، بين الإنسان والعمل، وبين التقنية والثقافة.

والتوفيق في مستوى الحياة الاجتماعية التي تحياها البشرية في طريقها الصاعد نحو الوحدة أو التوحد وبلوغ الغاية القصوى من وجودنا.

هل استطاع جنبلاط التوفيق بين المدينة والإنسان “القطب والغاية “.

وما هو مفهومه لحقوق الإنسان في إطار المدنية الحديثة، واستطراداً الإنسانية بمفهومها الشامل العميق.
ثانياً: حقوق الإنسان والإنسانية:
المدنية والحضارة المادية، وكل الاكتشافات العلمية، ومقدرة الإنسان على استنباط المزيد من وسائل الاستهلاك، كلها أنسته أو غربته وأبعدته عن المحور / المصدر لذا كان قول جنبلاط” نحن بحاجة اليوم إلى مثل هذا العود على بدء لكي ننقذ أنفسنا وقوميتنا من آثار المدنية”

فالمدنية التي تقوم على كمية الإنجازات والتهليل لها والانخراط في ألاعيبها “لا تحقق سعادة الإنسان لأن السعادة مفهوم داخلي صميم” ربط جنبلاط بين المدنية وإنجازاتها وبين إنسانية الإنسان على المستوى الاجتماعي، ومحاولة تجاوزه إلى الهدف، وهو تكوين إنسان وليس إيجاد علبة لتوضيب بطاقات للمعلومات أو إعداد آلات حسابية حية، لأن قيمة الإنسان تفوق بكثير كل مايقوم بإنتاجه(2) كما كان لكمال جنبلاط أبحاث وأفكار في حقوق الإنسان وواجباته، وركز على الروحية أو الذهنية التي وضعت على أساسها ” شرعة حقوق الإنسان العالمية” (4).

واعتبر أن احد الأخطاء التي نرتكبها هو بأن نجعل من الفرد محور الإنسانية ومحور المجتمع ومحور الكون. أو أن نجعل من المجتمع الشخصية الوحيدة القائمة في الكون لذا كان طرحه لمبدأ الحقوق والواجبات. “وأنه لا يمكن فصل الحقوق عن الواجبات لمن يتفهم أن الفرد لا تكتمل فيه معاني الإنسانية إلا بوجودية ذاتية ومجتمعية وإنسانية يعيشها تامة” (4).

ولكي تكون نظرة جنبلاط صحيحة على المستوى الاجتماعي، فإنه ربط بين الحق والواجب” إن الحقوق الجديرة بأن تطالب بها وبأن يحافظ عليها هي التي يبررها تتميم الواجب”(6).

فكيف يطالب بحرية الفكر والنشر مثلاً التي تنص عليها المادة 19 من الشرعة ولا نقابلها بواجب إنماء الشخصية الفاضلة القوية؟.

هذه الازداجية تظهر على مستوى الظاهر الاجتماعية حيث التكامل الحتمي بين الحقوق والواجبات. وبرؤية بعيدة اعتبر جنبلاط أن الازدواجية تلد على مستوى أدنى على مستوى الظاهر، وليس على مستوى الوجود أو المعرفة الصرف.(1).

المعرفة التي تغير حياة الإنسان تغييراً كاملاً بحيث يصبح بالإمكان طرح القضية “نكون أو لا نكون” وبحيث يمكن البحث والتنقيب عن حقيقة هذا الكائن / الإنسان، المتوحد مع كل الكائنات الحية.

وللدلالة، لا أكثر، على مفهوم جنبلاط الإنساني، محاولة ترجمته في الحياة الاجتماعية، نذكر نبذه للإكراه والقهر والاغتيال وكل أنواع العنف، “لأن العنف هو في النهاية مناهض لجوهر الطبيعة الإنسانية الأساسي” (2) وكذلك قراره المشهور بمنع الصيد على أنواعه، سيما الطيور والعصافير ، يوم كان وزيراً للدلخلية عام 1969 وتصريحه بهذا المعنى” كم كانت الأشياء مختلفة لو كان عدد العصافير والحيوانات البرية أكثر عدداً في لبنان، ولو كان لهذه الحيــوانات أن تعيش طليقـة في سلام(6).

إنسان جنبلاط على مستوى النظرية هو الكائن البشري الذي يترفع أحياناً إلى مستوى الإنسان، الإنسان الغاية، التي تتضافر الجهود لبنائه، حيث التقى بمفهومه هذا مع روجيه غارودي بقوله “إن ما هو محض إنساني هو الإنسان هو الإلهي”(4) كما ظهر هذا المنحى في بحثه عن الدور الحقيقي للمسيحية في لبنان، ومشيئة السيد الناصري هي في تجسيد مفاهيم المساواة والأخوة والمحبة والتضامن الإنساني في أنظمة المجتمع، في ذهنية المجتمع، في أهداف الدولة والمجتمع(5).

إذن مفهوم كمال جنبلاط للإنسان والإنسانية، لم يكن نظرياً فحسب، وإنما يمكن أن يحدث التحول المطلوب في الحياة الاجتماعية التي يحياها الناس من خلال إدراكهم للطاقات الهائلة فيهم، والتي يمكن استغلالها معنوياً واجتماعياً.

“الحياة هي مظهر الوجود، هي طاقة الوجود الأخيرة الرفيعة، المستعلية في مقامنا، وهي قابلة للتحويل فينا إلى طاقات معنوية وروحية واجتماعية، تماماً كما يتحول التيار الكهرباء المادي في السلك النحاسي إلى دفء وحرارة وإشعاع ونور وحركة.(1).

مفهوم الإنسان عند كمال جنبلاط يمكن أن يكون قد أحدث ويحدث بعض التغير على المستوى الاجتماعي، ولو ضمن حلقات ضيقة لأنه ارتكز ليس إلى المفهوم الكلي وتطبيقه على الإنسان، وإنما الإنطلاق من الإنسان في بناء نفسه وبناء المجتمع الذي يريد وحاول إحداث ” ثورة في عالم الإنسان” الإنسان المعرفي الاجتماعي وكانت قاعدته وآيته المذهبية هي دائماً وأبداً هذه:

“من لم يكن له داخله نور ينيره فيضيء به معالم الطريق، فهو أعمى وأبكم”.
ثالثاً: الحضارة وإنسانية الإنسان:

رأى جنبلاط أن المدنية تتعلق بالأشياء وبتطورها وتقدم ألوان صناعتها وتعدد وسائل ابتكارها والحضارة تتعلق بتطور فهم العقل وجلاء بصيرته وعودته إلى صفاء الينبوع.

وتطور الفهم لدى الإنسان يترافق مع تطور المجتمع حيث تعتبر الحضارة إحدى الركائز الأساسية في تكوين تراث شعب من الشعوب والحضارة لا تعني عند جنبلاط مفهوماً مطلقاً للإيجابية في الطبقية ويقول في هذا الصدد كل وجه إيجابي للحضارة يجب أن يأخذ به ويجب أن نرفض كل ما يسهم في انحطاطه وبكلمات أخرى يجب أن مستخدم الحضارة كمحرك في طريق تطور المجتمع البشري.

الحضارة والإنسان:

وهكذا حدد الحضارة كمحرك ووسيلة ليست غاية وانتقل بنا من الوجه الإيجابي إلى تكاثف الحضارة ودورها في تطوير البشرية، والخطوات المتصاعدة عبر رحلة الإنسان على قاعدة التطور في تحركه أنه يتدرج من تكاثف اقل الى تكاثف اكثر زادت طاقة هذا التكاثف وارتقت درجة الثقل النوعي للحضارة وللعلم في الإنسان كلما أسرعت خطواته في الانتقال من مرحلة حضارية إلى مرحلة حضارية أكثف مادياً وأعلى(1).الحضارة بتكاثفها وثقلها النوعي، هل حققت للإنسان كل ما يريده من مطلب الحياة العميق في الحرية والسعادة والوجود؟.

وطالما نحن في إطار حضارة مادية، فإن التساؤل سيبقى يراودنا، ما لم نجعل من الحضارة حافزاً ودافعاً لنا في طريق عودتنا إلى نقطة الدائرة.

في هذا الإطار تساءل جنبلاط: “حضارة الحواس هذه ( الحضارة المادية) هل تكون بالنسبة للإنسان غاية يدفن فيها ذاته ونفسه، ويخفي في ظاهرها وقشورها لباب حياته ونداء شوقه حنين عقله إلى المطن الشريف الأصيل، أن سنكون “صخرة التنبه واليقظة” هذا الحجر الذي يرتطم به خطوات عقلنا واندفاعات شعورنا وتوق هذا الأنس الإلهي فينا” (2).

الحضارة في مفهوم جنبلاط ليست غاية يدفن الإنسان فيها ذاته، وإنما وسيلة للترقي والسمو، ويتعداها بمفهوم آخر قد يكون أكثر اقتراباً من روحية الحضارة بقول: يفتقد العالم إلى رؤية شاملة للأشياء كما يفتقد إلى مفهوم روحي للحضارة، أي إلى نوع من تجل جديد على جيل طابور للإنسان الذي خلقته التقنية الحديثة، إن خلاص الدين والأخلاق والقيم التقليدية للإنسان لا يمكن أن يكون إلا لى هذه القاعدة وفي إطار هكذا تصحيح وتوجيه” (2).

هكذا تدرج بنا جنبلاط في مفهومه للحضارة، من الحضارة المادية (أو المدنية) إلى الحضارة المعنوية (صخرة التنبه واليقظة) وحتى روح الحضارة إلى الحضارة الحقيقة التي تكون في الإنسان لا في الأشياء”الحضارة الحقيقية هي التي تجعل الإنسان أكثر فأكثر حراً، المتمدن الحقيقي هو الذي يكون كذلك في داخله لا في خارجه” في الشخص لا في الغرض” وهي في “الناظر المدرك العارف للأشياء وليست قائمة في الأشياء” (5).

جنبلاط برؤيته المعرفية ونهجه الإنساني حمل على مدنية الغرب التي لا تعمل على الإنسان وتطرق إلى الحضارة كوسيلة وليست غاية متدرجاً في سلمه إلى الإنسان الذي “لم يوجد ليكون غرضاً وعبداً للحضارة، إنما وجدت الحضارة وتطورت لأجله أو على الأقل هكذا يكون”(1) هذا الإنسان في سعيه الدائم ونضاله المرير عبر العصور الذي يبحث عن سعادته، فتصبح الحضارة التي نرتجيها توجب علينا النضال لأجل تحقيها، لأن فيها وحدها سعادة الإنسان الذي يعتبر قطب هذا الكون ومحوره الذي يتبنى التطور بدون تحفظ، إنما يؤمن بالخير وبصيرورة الخير.

الإنسان والإنسانية:

الإنسان حسب كمال جنبلاط الذي يسعى لإكتشاف ذاته الحقيقية، ليس خارج محيطه الاجتماعي، وإنما من خلاله “لأنه” في كشفه لمحيطه البشري ـ المادي والمعنوي ـ يكتشف ذاته في حقيقتها إذا كانت قد نمت فيه ملكة التمييز واكتملت وبالمقابل فإن الكاشف الحقيقي عن نفسه ومكنون ذاته يتوصل إلى معرفة محيطه لأن الإنسان جزء في النهاية من ذلك المحيط ولو كان يتعداه.

الإنسان عنوان كبير في حياة جنبلاط وفكره ونظريته، تطرق إليه بوجوه أو مستويات مختلفة من الإنسان الحيوان إلى الإنسان الاجتماعي، والتلميذ الدائم والقادر العارف وصولاً إلى الإنسان الحقيقي أو الإنسان الإله.

يقول أرنولد دوفري: إن الإنسان يشغل في الحاضر مركزاً استثنائياً، حيث أنه أكثر الحيوانات الليونة انحطاطاً على وجه الأرض.

هذا الإنسان الذي رأه كمال جنبلاط من خلال دوفري، أكثر انحطاطاً غير متشائم كثيراً بمصيره وتطوره، حيث رأى أمكانية ترقيه من خلال عمله على ضوء منارة وعليه معرفته، شرط أن تكون قبل أن نفعل وفي هذا المنظار(بدأ جنبلاط مع الإنسان في مرحلة الدراسة) فإن الطالب يمهد للمواطن ويبشر بالإنسان ذلك الكائن البشري ليس هو بالإنسان لكن مرشح ليصبح بالإنسان، وهنا يكمن الفارق الأساسي والتعارض ؟؟؟؟؟؟ وبين الحيوان و” الاموبابيانس” homopapiens الرجل القادر على المعرفة الذي هو نحن .

الإنسانية سلماً ترتقي عليه من أسفل درجاته صعوداً بزيادة المعرفة واكتسابها ونتيجة الوعي والحرية، ومع التطور البشري الذي يجعلنا في عداد الكائنات الحية( الكائن البشري) ـ وهكذا يظهر لنا أن ” هذا الإنسان الذي يهدف إليه التطور الحيواني ـ البشري في مرحلته الحالية، وهو وإن لم يتحقق منه بعد إلا نفر قليل ، يبدو على قلته المتزايدة ، كشافة المقدمة التي يتمحض بها التطور ويتكامل معنى الإنسانية في أفرادها شيئاً بعد شيء.

ومع مفهومه إلى هذه القلة، رأى جنبلاط الوجه الاجتماعي للإنسان، ولا سيما في طور تجمع البشرية أو تكورها الاجتماعي الخطير على حد على حد تعبير تيلاردي شاردن ودوره في تقدم المجتمع، واعتباره جزءاً لا يتجزأ من حركة المجتمع في كل وجوهها السياسية والاجتماعية والفلسفية وتزوده بالاختبارات العلمية والمعرفية من الغرب والشرق على السواء.

الحياة هي تجدد دائم وحركة مستمرة، وعلى الإنسان أن يحياها ويفيد ويستفيد منها، باعتباره تلميذاً دائماً فالذهن والجسد يتحدان باستمرار كمياه النهر إذ أن السباحة في المياه نفسها مرتين عملية مستحيلة(2) وفي هذا المفهوم لتجدد مياه النهر كل لحظة، وتجدد حياة الإنسان وخلاياه وتبدلها المستمر والدائم نجد هذا تبيان ضرورة في كل شيء (من خلال) نظرة حقيقية للوجود والبيئة التي يعيش جسده فيها وتتفاعل حواسه معها(1).

الإنسان في إطار البحث في هذه النقطة، هو الكائن البشري” الذي يترفع أحياناً إلى مستوى الإنسان وأحياناً إلى ما يتعدى الإنسان(5).هو الإنسان/ الغاية التي تتضافر كل الجهود والإمكانيات من أجل بنائه” الغاية الوحيدة لكل عمل ومؤسسة بشريين هي تفتح كامل متناسق لمقدور الفرد)الإنسان) وإن المجتمع في كل مؤسساته ـ ومنها السياسية ـ ليس في ذاته غاية بل وسيلة إلى بناء الإنسان فالدولة تقدس أو تلعن تحصب مؤسساتها أو تعقم، بقدر ما تخدم أو لا تخدم هذا الإنسان.

هذا المفهوم يؤكد لنا العلاقة الجدلية القائمة بين الإنسان والمجتمع وأولوية هذا الإنسان على ما عداه في عملية البناء المستمرة مع تعاقب الأجيال وارتقائها، ومع ازدياد الوعي وتفتح القدرات والطاقات. ومن خلال مفهوم الإنسان يتبين لنا أن المستوى الذي ارتقى إليه فكر كمال جنبلاط وسعة أفقه، والرؤيا الشمولية لعملية البناء المطلوبة ـ بناء المجتمع وبناء الإنسان ـ إنما يفتح الباب على مصراعيه للبحث عن تجليات الإنسانية في الفكر الإشتراكي(2) وكأنه لا يكفي البحث في البناء وإنما يحتاج إلى تحقيق الإنسانية، لأن النظرية دون قيمة عندما تنتقي إمكانية تحققها.

البحث في سياق مفهوم جنبلاط للإنسان وعبر مسلك الإبداع الكوني المكثف بالوعي والمعرفة يوصلنا إلى الإنسان يعلو كل مادية من أي نوع كانت، ولا تعلو عليه لأنه قطب الوعي في التكوين، ومحوره وغايته في مسلك التطور والإبداع.

جنبلاط قرن كل شيء بالحقيقة لأنه اعتبرها الميزان الأدق والمرجع الأخير لمسيرة البشرية في تعرجاتها وارتقائها فكما ورد معنا حول الحضارة الحقيقية نصل معه أيضاً إلى الإنسان الحقيقي عبر مفهومه الشامل للكون، ومن خلال مبدئه الذي عمل عليه طوال حياته وحدة الإنسانية وتكرارها والتحسس أكثر فأكثر بوحدة السيار الذي نعيش عليه. من هذا الاتجاه وهذا المبدأ طرح هذه الأنا الجوهرية التي لا تتبدل ولا تتغير هذا الشاهد الذي سميناه العارف يظل بالظاهر ولا شك مرتبطاً بالمجتمع ويقوم بواجباته الكاملة بالنسبة للمجتمع كما كان يقوم سقراط بواجباته الكاملة إزاء وطنه. ولكن في الآن ذاته يرى أنه في كل هذا لعبة من ألاعيب الدنيا الصغيرة إذ في الحقيقة الإنسان الحقيقي ليس له وطن هو أخ الإنسان حيثما كان.(1).

الإنسان العارف أو فيما يتعدى الإنسان المتخطي لكل ألاعيب ومظاهر الحياة الوضعية، والعائد إلى مصدر انبثاقه من النقطة الهيولية الأولى، رأى جنبلاط أن هذا الإنسان يظل مرتبطاً بالمجتمع يؤدي واجبه في هذه الدنيا في دورة مجتمعية كاملة مع باقي أفراد مجتمعه، ورأى في الواقع والدور الذي نعيشه حتمية التكيف ولو ظاهرياً مع اللعبة الاجتماعية الكبرى.

وأخيراً :

رغم أن لا آخر للفكر

الإنسان التقدمي هو الذي يتبنى إنتاج العلم و مستتبعاته العملية في جميع الحقول، يواكب التبني ــ في وحدة اندماجية تامة ــ قيم معنوية واجتماعية وأخلاقية، من أجل الوصول إلى الإنسان المسلح بالمعرفة والوعي والحرية، السامي لإكتشاف ذات الجوهرية وطاقاته الخلاقة وتحقيقها في وحدة إنسانية شاملة.

الإنسان الجنبلاطي،هو الإنسان التقدمي الجديد، الملتزم بقسمه الحزبي وبشرفه ومعتقده، في مسؤوليته ” ببناء مجتمع على أساس الديمقراطية الصحيحة تسود فيه الطمأنينة الاجتماعية والعدل والرخاء والسلم ويؤمن حقوق الإنسان.