في ذكرى الحرب: هل تعلّمنا الدرس؟

رامي الريس (الجمهورية)

على مشارف ذكرى الحرب الأهليّة في لبنان التي تصادف في الثالث عشر من نيسان في كل سنة، يحقّ للمواطنين اللبنانيين أن يتساءلوا هل الوضع اليوم يختلف جوهريّاً عمّا كان عليه قبيل اندلاعها في العام 1975، ويحقّ لهم أن يتساءلوا أيضاً هل الأسباب الرئيسيّة التي أدّت إليها قد تمّت معالجتها أو تطويقها لتلافي تكرارها، كما يحق لهم أن يتساءلوا هل ثمّة احتمالات لإعادة إنتاج الحرب، ولو بمسبّبات مختلفة، في المدى المنظور أو المتوسط.

فعلى رغم مرور أكثر من عقدٍ ونيّف على توقّف الحرب بموجب وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي عُرفت باسم اتفاق الطائف (1989)، إلّا أن ثقة المواطنين بوطنهم لا تزال مهتزّة، والدولة المرتجاة لم تقم بشكلها الكامل بعد ولم تنل المصداقيّة المطلوبة لغاية اليوم، والأسباب التي تقف خلف ذلك كثيرة وكثيرة جداً.

من نافل القول إن أيّ قراءة نقديّة جدية وشاملة لمرحلة الحرب الأهليّة لم تحصل بعد، ربما بسبب عدم امتلاك كل الأطراف السياسيّة المشاركة فيها الشجاعة الكافية للإقرار بذلك، من دون أن يلغي ذلك حصول بعض الاعترافات المتفرقة التي لم تخلُ من بعض الاعتذارات كذلك، إلّا أن كل ذلك لم يرقَ إلى مستوى إجراء قراءة شاملة لمجريات الحرب ومسبباتها الحقيقيّة والجوهريّة.

ليست مسألة تطهير ذاكرة الحرب قضيّة سهلة، لا سيّما أن الحروب تترك جروحاً عميقة في المجتمع والبنى السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة، ويتطلبُ الخروج منها رسم رؤية متكاملة لمرحلة البناء. صحيحٌ أن لبنان حقّق الكثير من المنجزات المهمة، خصوصاً على المستوى الإعماري لطَيّ صفحة الحرب، إلّا أن ذلك لم يترافق مع تفاهمات سياسيّة عميقة تكرّس الاستقرار وتتيح للعبة الديموقراطيّة أن تأخذ مداها الأوسع من دون التعرّض لانتكاسات مرحليّة.

وإذا كان من الصعب في مقالة صحافيّة مقاربة مسألة الحرب برمّتها والسعي إلى استخلاص العبر منها، إلّا أن ذلك لا يلغي إمكان البناء على الخلاصات الأساسيّة التي لا يمكن التغاضي عنها في أي محاولة لربط ماضي الحرب بالواقع الراهن، وأبرزها تأكيد معادلة التوازنات الداخليّة الدقيقة التي تقوم عليها التركيبة السياسيّة اللبنانيّة، وقد أثبَتت استحالة إلغاء أيّ فريق لبناني لأيّ فريق آخر بالقوة العسكريّة.

وكل المحاولات التي حصلت أثناء الحرب، وبعدها، لا تعدو كونها مغامرات مستحيلة لا يكتب لها النجاح ونتيجتها الوحيدة والحصريّة هي إزهاق الأرواح وتدمير الممتلكات من دون طائل، ناهيك طبعاً عن الآثار الاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة التي تتسبب بها ويتطلّب تجاوزها، لكي لا نقول مَحوها، لأنّ ذلك مستحيل على مستوى الذاكرة الجماعيّة والفرديّة على حد سواء، سنوات طويلة.

والمعادلة السياسيّة لا تزال هي ذاتها. قد يشهد لبنان صعوداً لقوة هذا الفريق أو ذاك، لهذا الحزب أو ذاك، أو حتى لهذه الطائفة أو تلك، ولكن المداورة في القوة والسطوة والنفوذ لم تشكّل يوماً أرضيّة كافية لأرجحيّة مستدامة، لا بل إنه شكّل سبباً لمعاودة الهبوط بسبب التوازنات الداخليّة وأحياناً الإقليميّة والدوليّة.

وخلاصة أخرى تتّصِل بمرحلة الحرب هي طبيعة النظام الطائفي والمذهبي الذي شكّل عائقاً أمام التطور السياسي نحو دولةٍ مدنيّةٍ بكل مفاصلها، وكرّس بعض المرجعيّات كوسطاء بين الدولة ومواطنيها، وخلقَ قنوات موازية لمؤسسات الدولة، تفوقها قوّة في الكثير من الأحيان، وتختزل العديد من أدوارها المركزية في أحيان عديدة أخرى. ويُضاف إلى ذلك طبعاً استخدام ورقة إلغاء الطائفيّة السياسيّة والتلويح بها فقط في إطار التجاذبات الداخلية والمصالح الفئوية وإخراجها من إطارها الإصلاحي الحقيقي.

إن الاستمرار في إضعاف الدولة سيؤدي إلى المزيد من التشرذم السياسي والمزيد من الانقسام السياسي. كما أن عدم تخلّي بعض القوى السياسيّة عن فائض قوتها لمصلحة الدولة، التي تبقى المساحة الوحيدة المشتركة بين جميع اللبنانيين، سيترك تداعيات سلبيّة على الواقع الداخلي اللبناني، ويجعل الأغلبيّة الساحقة من اللبنانيين يفقدون أيّ ثقة بوطنهم ومستقبلهم ومستقبل عائلاتهم وأولادهم.

طالما أن تجارب الإلغاء والتهميش والإقصاء أثبتت عقمها في تغيير موازين القوى الداخليّة وجرّت البلاد إلى التوتر، بات لزاماً على القوى السياسيّة قاطبةً الانطلاق من هذه القاعدة الجوهرية وتجنيب لبنان مرة أخرى تجربة الدخول في مغامرات غير محسوبة تؤدي إلى أثمان باهظة على كل المستويات.

اقرأ أيضاً بقلم رامي الريس (الجمهورية)

ماذا وراء دعوات جنبلاط الحواريّة؟

ماذا بعد تفجير الضاحية الجنوبيّة؟

ثورة لاستعادة الثورة المسلوبة

الجيش: ماذا بعد صيدا؟

خامنئي- روحاني- قوروش!

عندما ستدير أميركا ظهرها!

تنظيم الخلاف السياسي: هل هو ممكن؟

عندما سيطوف البركان السوري على لبنان!

هل تخدم الفتنة منطق «الممانعة»؟

عندما تُنقذ إسرائيل النظام السوري!

على مشارف الفوضى الإقليميّة!

تلاقي الأضداد بين لبنان وسوريا!

الثورات العربيّة وحقوق الإنسان!

عندما تتداخَل ألسنة اللهب!

قبل السقوط في الفوضى الدستوريّة!

عن حقوق الإنسان والديموقراطيّة

كيف نخرج من القرون الوسطى؟

الأرثوذكسي والشمبانيا!

سياسات التصفية والنتائج العكسية

التحوّلات العربية وسياسات الإنفاق!